إصلاح نظام إقرار الذمة المالية كمدخل للنزاهة ومكافحة الفساد في السودان

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/10 الساعة 07:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/10 الساعة 07:48 بتوقيت غرينتش
رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك - رويترز

يشهد شهر أبريل (نيسان) الحالي الذكرى الثانية لسقوط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، وذلك عبر ثورة سلمية خرجت من بقاع السودان كافة لاستعادة الحكم الديمقراطي، ولكن بالرغم من نجاح الثورة السودانية في تحقيق أحد مطالبها الأساسية بإزاحة رموز النظام السابق من سدة الحكم، واستعادة الحكم المدني بقيادة رئيس الوزراء الحالي د. عبدالله حمدوك، فإن عملية ممارسة الحكم لم تراوح مكانها. فالفساد المتوطّن في مؤسسات الدولة، والذي تمت الإشارة إليه في مؤشري مدركات الفساد (Corruption Perception Index) ومقياس الفساد العالمي (Global Corruption Barometer)، اللذين يصدران بصورة سنوية عن منظمة الشفافية العالمية، يمثل تهديداً جدياً للتحول الديمقراطي. 

فثقافة استغلال المناصب العامة لتحقيق مكاسب خاصة مازالت متجذرة بعمق في المشهد السياسي، كما أن العلاقة ما بين العمل في دولاب الدولة والقطاع الخاص غير محددة بوضوح في الأطر القانونية، حيث لا يوجد ما يمنع الموظفين العموميين من الدوران ذهاباً وإياباً بين المكتب العام والقطاع الخاص (revolving door)، كما أن العديد من المسؤولين الحكوميين يمتلكون حصصاً في شركات خاصة، أو مرتبطون بها بشكل مباشر، أثناء خدمتهم في الحكومة. الشاهد في الأمر أن العديد من موظفي الإدارة العامة يقومون بتشغيل مؤسساتهم الخاصة أثناء عملهم في الحكومة. فقد نصَّ دستور السودان الانتقالي للعام 2019 في المادة (19) الفقرة (2) على عدم جواز ممارسة العمل الخاص لذوي المناصب الدستورية العليا في الدولة، ولكنه تجاهل القيادات الإدارية في الجهاز البيروقراطي، تحديداً الوظائف الأكثر عرضة للتأثير السياسي. هذا الخلل حول عدم فرض فترة سماح كافية للدوران ما بين القطاع العام والخاص، وما يرتبط بها من تضارب في المصالح ساهم بصورة فعلية في استشراء المحسوبية والزبائنية، والتي لا تزال متوطنة في النظام السياسي. 

يعد تطبيق إقرار الذمة للموظفين العموميين من أهم أدوات مكافحة الفساد في الوظيفة العامة، وقد عملت به أغلب الدول ذات الأنظمة الديمقراطية وفقاً للاتفاقيات الدولية، في مقدمتها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد للعام 2003، حيث نصَّت في الفقرة (5) من المادة (52) على إنشاء أنظمة للإفصاح المالي للموظفين العموميين في كل دولة وفقاً لقانونها الداخلي. وعلى أهمية هذا النظام باعتباره عاملاً مهما في تعزيز النزاهة، إلا أنه ليس كافياً، بمعزل عن استراتيجية قومية شاملة لتعزيز لمكافحة الفساد. لذلك فمن غير المستغرب أن يعاني نظام إقرار الذمة المالية في السودان -والذي تم تصميمه في ظل النظام السابق- من قلة الفاعلية، وذلك لاحتوائه على العديد من النواقص. 

على سبيل المثال، فإن القانون الذي ينظم الإطار الحوكمي للإفصاح عن الأموال والأصول لذوي المناصب العليا، تحديداً قانون "الكسب غير المشروع والمشبوه للعام 1989" قد أهمل عدداً من النقاط الرئيسية، أهمها عدم تحديد آليات مفصلة للحصول على نماذج إقرارات الذمة من المعلنين، وكذلك التحقق من المعلومات الواردة فيه. علاوة على ذلك، فإن القانون محدود النطاق، على الرغم من أنه يُلزم كبار المسؤولين الحكوميين وأفراد أسرهم المباشرين بالإفصاح عن مصادر أموالهم، فإنه لا يشمل الموظفين المدنيين في المناصب عالية الخطورة، مثل المسؤولين التنفيذيين في الشركات المملوكة للدولة، إضافة لموظفي الهيئات التي ترفد خزينة الدولة بالإيرادات، كهيئة الجمارك وغرفة الضرائب. 

إضافة لما سبق، لا يزال نظام إقرار الذمة المالية في السودان نظاماً ورقياً، وهو ما يُعقد من بيروقراطية تطبيقه، ويقلل من فاعليته، ويساهم في حجب المعلومات عن المواطنين والمجموعات الحقوقية المهتمة بالنزاهة المالية في مؤسسات الدولة. لقد أثبتت التجارب العالمية مؤخراً أن التحول الرقمي في أنظمة إقرار الذمة، كما في بلدان كالأرجنتين، وأوكرانيا، وجورجيا، أثبتت أهميتها في الحد من فساد القطاع العام، تحديداً فيما يلي تضارب المصالح والكسب المشبوه وسط السياسيين وكبار المسؤولين في الجهاز البيروقراطي للدولة. 

التحول الرقمي في نظم الإفصاح المالية يساهم في تعزيز الشفافية، وذلك ببذل المعلومات عبر منصات إلكترونية، ما يفسح المجال لمساهمة المواطنين في التدقيق على مصادر الأصول المالية للسياسيين في المناصب العليا، بالإضافة لقيادات الخدمة المدنية، وبالتالي تعزيز ثقة الشعب في مؤسسات الدولة، كونها لا تتبنى سياسات عامة تخدم مصالح فئات ضيقة من المجتمع لتحقيق مكاسب شخصية.

على أن معالجة أوجه القصور في النظام الحالي تنطوي على قدر عال من الأهمية، إلا أن العملية التي يتم عبرها تبني إصلاح السياسة العامة وتنفيذها تعتبر أولوية قصوى. يجب أن تتخذ القيادة السياسية في السودان خطواتٍ جادة نحو تجنب تسييس عملية الإصلاح، والتشاور مع أصحاب المصلحة (بما في ذلك منظمات المجتمع المدني، والوكالات الحكومية ذات الصلة، وأيضاً هيئة مكافحة الفساد التي سيتم إنشاؤها قريباً)، ويشمل هذا الأمر، بطبيعة الحال، الاستقلالية السياسية والإدارية للمؤسسة المسؤولة عن تطبيق نظام إقرار الذمة، وذلك لضمان شرعية العملية برمتها.

لقد فتحت الثورة في السودان فرصةً سانحةً للتقدم نحو حكومة أكثر شفافية وخضوعاً للمساءلة أمام مواطنيها. كما أن السلطة الانتقالية أدرجت مكافحة الفساد في أعلى سلم أولوياتها الاستراتيجية. لكن أحد الاختبارات المبكرة، التي توضح مدى جدية الحكومة في هذا الأمر هو ما إذا كانت قادرة على إصلاح نظام إقرار الذمة لشاغلي المناصب الدستورية، وكذلك قيادات الخدمة المدنية في الجهاز البيروقراطي بالسرعة المطلوبة. إن تبنّي هذا المسار، إضافة إلى كونه يعزز من ثقة الشعب في حكومته، إلا أنه أيضاً يبعث برسائل إيجابية للمجتمع الدولي، مفادها أن القيادة السياسية تعمل بجد على ترميم إرث ثقيل من الفساد والاستبداد، وعزمها على بناء حكومة شفافة وخاضعة للمساءلة أمام شعبها، كي تمهد الطريق لحكم ديمقراطي مستدام في السودان.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هيثم كرار
باحث سوداني في الحوكمة ومكافحة الفساد
باحث سوداني في الحوكمة ومكافحة الفساد، ويعمل مستشاراً بمنظمة النزاهة العالمية.
تحميل المزيد