تزامناً مع حلول الذكرى الثامنة عشرة للغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، أجد أن من المناسب القيام بمراجعة غايتها فهم بعض محركات الصيرورة التاريخية التي أدت إلى حالة اللامركزية والفوضى التي يعيشها العراق اليوم.
سأحاول في هذا المقال، قدر الإمكان، الاختصار في طرحي وإبقاءه واضحاً ومباشراً، لكي يسهل على القارئ استساغته، مع اعترافي بصعوبة الموضوع المتناول وتشعّبه.
يستخدم هذا المقال مقاربة نظامية-تاريخية لفهم حالة التفكك التي يشهدها العراق حالياً من خلال ربطها بالسياق التاريخي الأكبر للأحداث. وبفعل هذه المقاربة التي تستدعي النظر لمجريات الأحداث بصورة شاملة من دون مراعاة للتفاصيل الدقيقة على مسرح الأحداث، فإنني لا أقوم بإلقاء اللوم على صدام حسين من منطلق شخصي، ولكن بناء على تقديري لسوء فهمه للحتمية التاريخية التي يفرضها الموقع الجغرافي الخاص بالعراق، والتي أُنَظّر لها بشكل موجز في هذا المقال.
آمل أن يلفت هذا المقال الأنظار إلى "حتمية تاريخية" تتكرر بشكل مطرد كلما انهارت السلطة السياسية المركزية في العراق. تؤدي إحالة الأحداث التاريخية المعينة إلى سياقها الأكبر إلى فهم أكثر شمولية لحركة التاريخ، وهذا يقودنا بدوره إلى تلافي الضياع في دوامة التفاصيل الدقيقة التي تؤدي في الغالب إلى استنتاجات خاطئة ومنقوصة، وهو ما يقود إلى تكرار الأخطاء ذاتها، مع اختلاف الحقبة الزمنية وتشابه الظروف.
أسطورة الاستقرار السياسي في العراق
تبدأ حكايتنا في صيف العام 1968، عندما تسلّم حزب البعث العربي الاشتراكي زمام السلطة في العراق، بعيد انقلاب ناجح على حكم الرئيس عبدالرحمن عارف. وبغض النظر عن السياسة القمعية المتزايدة التي تبناها الحزب بشكل تدريجي تجاه معارضيه، خلال العشرية الأولى من حكمه، إلا أنه استطاع وبشكل ناجح القيام بإنهاء حالة الانقلابات العسكرية المستمرة داخل العراق منذ العام 1958، فارضاً بذلك حالة من الاستقرار في المشهد السياسي الداخلي، بالإضافة إلى نجاحه في إحراز طفرة تحديثية على كافة الأصعدة بفعل ما شهدته أسعار النفط من ارتفاع إبان تلك الفترة. وعلى العموم فقد استطاع العراق خلال عقد واحد من حكم البعث تحسين علاقاته الدبلوماسية مع بقية الدول، موطداً بذلك مكانته كرقم إقليمي صعب، وكلاعبٍ دولي مهم في سوق النفط، ولعل أهم الإنجازات الدبلوماسية التي لم يكتب لها التحقق على أرض الواقع، تلك المتعلقة بإعطاء العراق حق استضافة قمة دول عدم الانحياز، والتي لم تعقد جراء اندلاع الحرب مع إيران.
ويبدو أن النجاح الأولي الذي حققه الحزب خلال العقد الأول من حكمه زاد من سقف طموحات القائمين عليه، وخصوصاً من طموحات صدام حسين الشخصية بعد تفرده بالسلطة خلال صيف العام 1979، ولكن سقف الطموحات العالي هذا لم يراعِ حقيقة تاريخية ثابتة، ألا وهي هشاشة الاستقرار السياسي للنظام الحاكم في العراق، بفعل موقعه الجيوسياسي الصعب، لقد أدى تجاهل هذه الحقيقة الثابتة إلى التساهل في اتخاذ قرار الدخول في مغامرات عسكرية قاتلة، أدت لاحقاً إلى زعزعة دعائم استقرار النظام السياسي الحاكم للعراق، ومن ثم إلى انهيار السلطة المركزية وتحويل العراق إلى منطقة تخوم، تتصارع القوى الإقليمية الكبرى عليها، وهي حالة مطّردة التكرر في العراق، يسهُل على القارئ النجيب للتاريخ ملاحظتها.
لقد قاد صدامٌ بحماقة -وهو ليس أحمق في كافة النواحي على العموم- العراق إلى الهاوية، فكل ما يحصل اليوم هو مضاعفات ثلاثة وعشرين عاماً من حكم الرجل الواحد الذي لم يكن قادراً على استيعاب حقيقة هشاشة استقرارِ دولةٍ ذات موقع جيوسياسي معقد مثل العراق. استسلم صدامٌ في كل مرة لنزواته الشخصية، مقدماً بذلك أهواءه وكبرياءه على المصلحة الكبرى للدولة التي يحكمها، فمن يستوعب حركة التاريخ خلال الـ2500 عام الماضية، سيفهم حقيقة أن الاستقرار السياسي هو الاستثناء في العراق، أما الفوضى واللامركزية فهي النمط السائد في هذه المنطقة الجغرافية من العالم، وأما سردية التفوق التاريخي وخرافة الماضي التليد فما هي إلا سردية وطنية سطحية للتاريخ، هدفها إرضاء الميول القومية لدى البعض، ولا فائدة حقيقية تستسقى منها، فمنذ انهيار الإمبراطورية البابلية الحديثة على يد الأخمينيين لم تنشأ سلطة سياسية مركزية مستقرة في بلاد ما بين النهرين إلا في حالتين (العصر العباسي الأول والدولة العراقية الحديثة)، ولكلتا الحالتين خصوصيتهما الشديدة التي لا يمكن لها أن تعمم فيما يخص خلق حالة داخلية من الاستقرار.
دعوة صدام حسين
نظرياً، يحتّم هذا الموقع الجغرافي الصعب، والطريقة التي خطت بها حدود الكيان السياسي الحالي، على القائمين عليه، تركيز جهودهم بشكل أساسي للحفاظ على دعائم الاستقرار السياسي للنظام الحاكم للدولة، من خلال تحشيد أكبر قدر مستطاع من القوة بيد السلطة المركزية، مع الحذر الشديد من افتعال نزاع مسلح مع أي من جيران العراق. إذ تؤدي النزاعات المسلحة في الغالب إلى استنزاف المجتمع وموارده، وإلى إضعاف استقرار الدولة ككل، ولأن العراق أصغر في حجمه وإمكاناته، مقارنة بحجم وإمكانات المحيطين به، وذا بنية اجتماعية مفككة بفعل الصيرورة التاريخية التي أدت لتأسيسه في مطلع القرن المنصرم، فإن النتيجة النهائية لأي نزاع مسلح ستكون خسارة العراق على المدى البعيد، وتحول المنطقة الواقعة ما بين نهري دجلة والفرات إلى منطقة تخوم نائية ومستنقع صراعات إمبراطورية كبرى، بفعل تفكك وانهيار السلطة السياسية المركزية فيها، وتستمر هذه الصراعات، غالباً، باستمرار التوزيع المعين للقوة داخل النظامين الإقليمي والدولي، ومن المعروف أن الوظيفة الأساسية للدولة هي محاولة الصمود والبقاء في نظام فوضوي، وهذا ما يؤدي إلى صمود التوازنات النُّظمية للقوى قروناً عديدة، بمعنى آخر، كما تحافظ الدول على رصيد القوة الموجود لديها -ما لم يُصبها حدث جلل- لفترة طويلة من الزمن، وهذا ما يؤدي إلى طول الفترة الزمنية للصراع بين الدول الكبرى، وهي في حالة العراق جيرانه المحيطون به، إضافة إلى الدول العظمى الأخرى، نظراً للترابط الحالي للكوكب، جراء التقدم التقني والذي يسهل سرعة الانتقال.
وهنا نعود بالحكاية إلى بطلها الأول صدام، الذي نجح نجاحاً ساحقاً في تفكيك كافة دعائم استقرار دولته، فمن افتعال أزمة كوكبية باحتلال جار صغير ذي أهمية استراتيجية محدودة للعراق (الكويت)، من دون معرفة كيفية الخروج منها، وهذا ما يدل على سطحية التخطيط والمبالغة في تقييم الحجم الحقيقي لقدرات العراق ونفوذه، وإلى المكابرة والكذب حتى آخر لحظة بخصوص موضوع حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل، كي لا يتيح المجال للآخرين للشماتة به.
لقد دعا صدام بنفسه الغزاة لاحتلال العراق، ووفر لهم كافة الذرائع لتدميره مرة تلو الأخرى، فلا هو ولا نظامه استطاعا استخلاص الدروس الضرورية من التاريخ الجيوسياسي لبلاد ما بين النهرين، بل على العكس، انخرط صدام ونظامه في عملية تفصيل مضحكة للتاريخ، لكي تؤدي صيرورته النهائية إلى انبثاق حزب البعث، المنقذ الأوحد للأمة. وأدى هذا الفهم السطحي لحركة التاريخ المرتبطة بالموقع الجيوسياسي للعراق إلى كارثة كبرى أعادت العراق إلى مستنقع التخوم، بقالب جديد يفرضه الواقع الحالي للنظام الدولي الذي يعقد من مسألة التدخل العسكري المباشر لغير الدول العظمى، إضافة إلى صعوبة السيطرة على المجتمعات المحتلة بفعل التقدم التقني والنزعة القومية العازلة للآخر الغريب.
++++++++++++
إن النتيجة شبه الحتمية التي تعقب كل انهيار سياسي تام لنظام الحكم المركزي في بلاد ما بين النهرين هي التشظي المستمر للهرمية السابقة للسلطة، والتدخل الخارجي المستمر، بطريقة يستحيل معها تشكيل أية سلطة سياسية مستقرة، وهذا الحال يدوم ما دام توازن القوى النظامي على ما هو عليه. والخلاصة هي أن حالة اللااستقرار التي تسود العراق بعد العام 2003 هي تمظهر جديد لنمط مطّرد من الصيرورة التاريخية التي تتكرر بفعل الموقع الجيوسياسي للعراق، كلما انهارت سلطته المركزية، وأن الموضوع أكبر من الشخوص والطوائف والقوميات، وحتى ولو جيء بألف صدام بعد انهيار السلطة المركزية في العام 2003 لما استطاع الإمساك بزمام الأمور، ناهيك عن الطبقة السياسية الرثة التي فرضتها أمريكا على العراق، ولي حديث أعقد وأطول في مواضيع تالية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.