كتب غسان كنفاني العديد من الأعمال الأدبية التي كرسها للتعبير عن قضية فلسطين. في روايته "الشيء الآخر.. من قتل ليلى الحايك؟" التي صدرت عن مؤسسة الأبحاث العربية بطبعتها الأولى عام 1980، ونشرت بداية في مجلة الحوادث الأسبوعية، على تسع حلقات بدأت في يونيو/حزيران 1966 حتى 1967 -شيء آخر مختلف، ولكن إلى أي حد؟ وأين مكمن اختلافه؟
في كنف حضارة وعدت بالحريات وأخفقت في تحقيقها سواء أعلى مستوى الفرد أم الجماعة، شعر الإنسان المعاصر بالخواء والعبث، وانسرب ذلك في الكثير من الأعمال الأدبية، التي عبرت عن أزمة الإنسان المعاصر ولا جدوى وجوده وضياعه وخوفه وقلقه. فهل يبحث غسان كنفاني في هذه الرواية عن حرية العالم/الفرد المفقودة؟
تقوم الرواية على حدث رئيسي وهو مقتل ليلى الحايك صديقة زوجته التي أقام معها علاقة جنسية. يتعرف البطل وهو محامٍ شهير، إلى ليلى وزوجها مصادفة، إذ كان يسهر مع زوجته في عيد زواجهما، والتقت ديما زوجته بصديقتها التي غابت عنها زمناً طويلاً. يعبر الأستاذ صالح عن انطباع سلبي تجاه ليلى ويصفها بالمملة والسهلة. يتصل زوج ليلى وهو رجل ميسور الحال ويحبها بجنون، بالمحامي الفذ ويطلب منه أن يساعده في قضية إرث حصلت عليه زوجته. يعرف المحامي أن والد ليلى على وشك الموت وسيترك لها تركة هائلة، والزوج رافض أن تحصل زوجته على تلك الأموال، ودافعه ألا تتغير عليه، فمن له أن يتخيل ما الذي سيحل بامرأة تتحصل على تلك الثروة؟ يوافق المحامي على طلب الزوج، ويصبح هو وكيل الشاب الأرجنتيني الذي يدعي أنه شقيقها، تزوره ليلى في مكتبه، يتفقان على أن تكون المعركة شريفة وتوافق هي على أن يحصل الشاب وفي أي حال على مبلغ من المال. يسافر زوج ليلى وتسافر زوجة المحامي وتبدأ علاقة حميمة ملتهبة بين ليلى والمحامي. وفي ليلة يقصد صالح بيت عشيقته وقد اشترى لها زجاجة عطر، لكنه لا يدخل لاعتقاده أن معها أحداً في البيت، يتراجع ولا يخفي آثار وجوده في المكان، فحين تقع منه علبة سجائره لا يكترث ويغادر، في الوقت الذي يراه فيه كثيرون، وتشاء الصدفة أن تُقتل ليلى في تلك الليلة، فيتهم هو بقتلها إذ تتجمع ضده أدلة وشهود رأوه في المكان، وصمته المطبق.
كل ما عرفناه من أحداث الرواية هو من خلال رسالة يوجهها المحامي صالح الذي اختار الصمت في مواجهة ذلك الحدث المدوي في حياته كإنسان، إلى زوجته. أي إن الرواية اعتراف للزوجة بالخيانة، يقدم خلاله كنفاني تشريحاً لمعاني الحب والخيانة والعدل والاختيار من رجل آثر الصمت موقفاً في مواجهة المصير. في هذا المونولوج الذي عنونه كنفاني "الشيء الآخر.. من قتل ليلى الحايك؟" يحدد موقفه الوجودي من هذه القضية أولاً، فهناك شيء آخر قتل ليلى الحايك، أي هو يبرئ نفسه من مقتلها، وفي الوقت ذاته، يتموضع بعيداً عن ذلك الشيء فيؤكد وجوده المستقل عنه كفرد، وقد يصح تأويل ذلك الشيء على أنه القدر أو رجل أو الانتحار أو حتى العالم المادي، ولكنه في كل حال شيء آخر موجود ومنافٍ لكاتب الرسالة.
يحيل هذا إلى منطق الوجوديين. فهل ابتدع كنفاني الصمت في هذه الرواية رديفاً لحرية الفرد في الاختيار كما يفسر الوجوديون العالم؟ ولماذا؟
قد يفهم الموقف على أنه عبثي، فقد كان للمحامي أن ينطق كي ينقذ رأسه من حبل المشنقة ولكنه صمت، حتى إن صمته استفز العدالة ومن يمثلونها في الرواية. ولكن العبث وجه آخر للحقيقة، والاعتراف العميق بها بالهروب منها نحو اتجاه معاكس لها، يجعلنا لا نواجهها. إذاً فعل اللافعل هو فعل حر أصيل يؤكد حضور الذات في وجه العالم الذي يحاول محوها. فعل الصمت يترجم أصالة الفرد الذي تحمل مسؤولية فعله ذاك، في مواجهة حدث مأساوي، جعله يرى أن دفاعه سيكون فعلاً عبثياً. الصمت جعله يتمكن من إيجاد معنى وجوده في هذه الحياة، به يواجه من يحاولون محوه.
كما أنه بالصمت استطاع أن يفسر ما يراه الآخرون خيانة زوجية على أنه اختيار واعٍ لوجود حر يستطيع أن يعرف ذاته بالانفصال عنها. لقد أعطاه صمته فسحة لاكتشاف عالمه الداخلي، فاكتشف عمق حبه لزوجته، وفسر الخيانة على أنها هروب من حقيقة الملل. كان البطل يشعر بوجود شرخ في وعيه وحين أقام علاقة جسدية مع ليلى كان إنما ينفصل عن حاضره القلق وينفيه استباقياً، ليرغب من جديد ويريد من جديد، أي إن فعل الخيانة كان نفياً لموت الرغبة باستباقها نحو الآتي، محاولة من الذات مطاردةَ حقيقتها للهروب من حالة اللاوجود المتمثلة في موت الرغبة، بخلق حالة تضمن للكينونة أن تستمر عبر الحركة.
هذا الوعي الذاتي يخلق فجوة مع العالم الخارجي، فيعبر الكائن الحر الذي اختار الصمت موقفاً صلباً لم يتراجع عنه، عن أمرين: هشاشة الذات الأبدية، ومحاولاتها المستمرة البحث عن خروج لمأزق عدميتها بالبحث عن استمرارية غير مستقرة هي في ذاتها هشة لأنها بحث دائم عن عاطفة تفشل دائماً، يقول سارتر عن الإنسان: " حماسة لا فائدة فيها".
الصمت غياب للضوضاء، محو للخارج وإيغال نحو الداخل، يحتاج من الإنسان قدرة على مواجهة ذلك الداخل، وذلك الصوت الداخلي الذي هو الذات، حين نواجهه فنحن نواجه الذات، نقف أمامها من دون حدود أو شك، نسمعها بوضوح، وقد يردد ما تقول فهل سمع بطل الرواية الصامت أن ذاته تريد أن تندثر؟ لماذا؟
يوجب الاختيار الحر الواعي إنكار أي حتمي خارجي مسير قد يطغى على إرادة الفرد، قد تصبح الحرية عند تلك النقطة مرعبة لأنها ستختار حتى لو كان الاختيار هو التحول إلى وجه آخر من وجوه الوجود بالموت، أي تحويل العدم الحاصل باللحاق الدائم للحقيقة والماهية إلى عدم بالتماهي معها. الموت هو شكل آخر للوجود طريقه الصمت عن محاولة الوجود، نفي الوعي ذاته، تحطيم أساليبه في التحقق، بالانسلاخ الأخير والسفر الذي لا رجعة منه، الصمت هنا طريق الروح نحو أصالة لا نهائية، لا يستطيع أن يفسرها أو يتقبلها عالم مليء بالضوضاء من أجل التجلي.
عندئذ لا يكون موت المحامي في رواية غسان كنفاني خداعاً للنفس من خلال الشعور بانعدام المعنى، بل هو تأصيل بنفي الخوف من العدم، بقتل قلق الوجود من أساسه والدخول في العبث بطواعية، هو تحقيق لأقصى أشكال الحرية بالاستسلام الواعي للرغبة بفعل اللامعقول، بالتحرر من ثقل العالم، بنفي المكان المخصص للذات فيه، بقرار التوقف عن الاختيار، بالتطهر من البحث عن الامتلاء عبر التماهي في الفراغ الأبدي.
في نفي الذات نفي للآخر، ولاستبداد شهوة التسلط، تكسير للمتعارف عليه من تفسيرات الحب والشهوة والعلاقات الإنسانية، حين تكسر الذات حبها لوجودها، فهي قد تخطت نزوعها إلى الاستبداد بالآخر، وحين صار صالح حراً من شهوة تملك ليلى صار حراً بها وعبرها من رغبته الشديدة في الامتلاء، لقد أضحى الآخر أسمى من الشيء الذي يمكن الذات من امتلاكه، فبقي جسد ليلى مرهوناً بحريتها في تقديمه له أو لغيره، وهو تمكن من ملامسة حريته من الاستبداد بالآخر وتقييده، عبر التمركز في ذاته ومواجهة صوتها الداخلي.
الصراع في رواية غسان كنفاني "من قتل ليلى الحايك؟" وجودي ينبني على حرية الإنسان في اختيار حياته ومصيره في مقابل رغبة الآخرين في جعله يختار ما يجدونه هم مناسباً لأعرافهم وتجاربهم، فالبطل الصامت كان يواجه بحرية تامة الموت الذي سيقع عليه من قبل الآخرين، بمعرفتهم مثلاً بأمر علاقته الجسدية بليلى وتأطيرهم لمثل تلك العلاقات ضمن مفهوم الخيانة، بموت آخر حر أعطى لحياته قيمة إذ إنه حقق ذاته بالصمت الذي هو موقفها الوجودي المسؤول، ولم يسمح للعالم بتشويه نزوعه إلى الحرية بقتله شنقاً، فكان الصمت في ظاهره استسلاماً للحاصل وفي باطنه رداً على قسوة العالم وظلمه ورفضاً لأعرافه وأحكامه وموازينه.
هكذا هو كنفاني يختار في كل مرة أن يختار موقفه الوجودي، أن يشرح للعالم عبر شخصياته تمزقه وقلقه ووحدته، هذه المرة ومع شخصية تمثل مظهراً من مظاهر العدل، استطاع أن يواجه العالم الخانق عبر تصاعد صوت الرغبة في محو كل شيء، في رفض كل شيء: الأحكام والآخر والمكان والتجذر والضجيج العابث بإنهاء كل ذلك، مؤكداً أن الحرية محور الوجود. فهل ذلك بعيد من قضيته الأولى؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.