عندما سمعت عادل إمام وهو يقول "أنا أشك إذاً أنا دبوس" تضايقت جداً، ورأيت أن هذا الاستظراف أفسد أحد أهم الأفكار الإيمانية في الفلسفة الحديثة، وهي الفكرة التي صاغها رينيه ديكارت بقوله: "أنا أشك إذاً أنا موجود".
وديكارت -حسب زعمي- من أكثر الفلاسفة إيماناً، وهذه الفكرة تحديداً التي تعرف بالـ"كوجيتو" تُمثل لب إيمانه وأهم أفكاره أيضاً. وكلمة "كوجيتو" (Cogito) اختصار للعبارة اللاتينية (Cogito, Ergo, sum)، وتعني "أنا أفكر إذاً أنا موجود".
وقد بدأ ديكارت عمله الفلسفي من "الدرجة صفر" بالشك في كل شيء، وكان شكه هذا وسيلة لا غاية، ولكن ديكارت الذي شك في كل شيء لم يستطع الشك في أنه يشك، والشك عملية عقلية، أي نوع من التفكير، ولذا قال بداية: "أنا أشك إذاً أنا أفكر". ثم تقدّم خطوة فقال: "وما دمت أفكر فأنا موجود". وبالتالي فقد أثبت وجود نفسه وتوصل إلى أول شيء يقيني بالنسبة له، وبناء على هذا اليقين الأول أو الأساسي بوجوده بدأ إثبات وجود الأمور اليقينية الأخرى، وأهمها بالطبع (اليقين الأعلى)، أي (وجود الله)، أو ما يسميه "الكوجيتو الأعلى"، ويصفه بأنه المصدر لكل موجود والضامن لكل حقيقة.
وما زال لديّ ورقة قديمة كتبت عليها هذا الإثبات الديكارتي العقلاني لوجود الله، نقلتها من كتاب عثمان أمين عن ديكارت، وفيها إكمال خطواته كما يلي:
"وإذا كنت موجوداً فإما أن أكون أوجدت نفسي أو أوجدني غيري، فإذا كنت أنا الذي أوجدت نفسي فإن فيَّ عيوباً ونقائص لا بد من تلافيها كي أصل إلى الكمال، ولكني برغم شوقي إلى الكمال فإني لا أستطيع تحقيقه، وما دمت لا أستطيع تحقيقه فأنا عاجز. وما دمت عاجزاً عن تحقيق الكمال لنفسي فأنا من باب أولى أشد عجزاً عن خلقي لنفسي، وإذن فقد خلقني غيري، وهذا الغير لا بد أن يكون أكمل مني، لأن الناقص لا يخلق ما هو أكمل منه، ولا يمكن أيضاً أن يكون مماثلاً لي، فلم يبق إذن إلا المطلق وهو الواحد الخالق الأحد".
وكما ترى فقد استخدم عقله فقط ولم يعتمد على أية نصوص دينية. وبالطبع لم يكن الأول في هذا المجال. فطريقته هذه تذكرنا بطريقة "حي بن يقظان" عند أبي بكر بن طفيل القرطبي الأندلسي، أستاذ ابن رشد، وطبيب الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن.
وليس لدينا من مؤلفات ابن طفيل سوى: "رسالة حي بن يقظان". وأصل القصة سابق على الإسلام، وقد عرفها العرب عن طريق نص صغير ترجمه حنين بن إسحاق تحت عنون "سلامان وأبسال". وقد طوره ابن سينا فيما بعد في قصة بالعنوان نفسه. وهنا فإن ابن طفيل يتابع ابن سينا في فلسفته الإشراقية المتأثرة بالأفلاطونية المحدثة.
وتتكون تلك الرسالة من قسمين: مقدمة حول أهم المسائل الفلسفية حتى عصر ابن طفيل، ويقرر أنه يهدف إلى الوصول إلى أعلى مراتب المعرفة، وهي مرتبة أولية للصدق، وألا يقف مثل ابن باجة عند مرحلة أهل النظر، وهي رتبة تنسمها ابن سينا ولكن لم يتذوقها مثل الغزالي.
وهو يقسم المعرفة ثلاثة أقسام: معرفة حدسية تقوم على الكشف والإلهام، ومعرفة عقلية عمادها المنطق وقوامها الحواس، وتستخدم التحليل والتركيب لتصل إلى نتائج معرفية نظرية، وأخيراً معرفة ذوقية كفيلة ببلوغ الحق اليقين، وهو معرفة الله سبحانه.
وهذه هي المراحل الثلاث للمعرفة التي يمر بها بطل قصته "رسالة حي بن يقظان" وهذا هو القسم الثاني للرسالة. وكانت بداية هذا الطريق المعرفي في جزيرة غير مأهولة من جزر الهند؛ حيث وجد طفل رضيع دعاه المؤلف باسم رمزي هو (حي بن يقظان). ويقدم عدة احتمالات لكيفية وجود هذا الرضيع على تلك الجزيرة، والأرجح أن التيارات البحرية حملته إلى الجزيرة بعد أن وضعته أمه في صندوق خشبي كي تنجيه من موت مهدد، فكأنه موسى جديد.
وقد وجدته ظبية كانت قد فقدت وليدها فأرضعته وصارت له أماً. ومنذ هذه اللحظة مر حي بن يقظان بعملية تعليم ذاتي طويلة وعجيبة، ليس له فيها من معلم سوى عقله اليقظ، وكانت مراحل هذه العملية مقسمة بشكل سباعي؛ حيث ينتقل "حي" كل سبع سنوات إلى درجة أرقى وأرفع من المعارف.
وقد تدرج في المشي، وأخذ يحكي أصوات الظباء، ويقلد أصوات الطيور، ويهتدي إلى مثل أفعال الحيوانات بتقليد غرائزها، ويقارن بينه وبينها. ولم يفارق الظبية إلى أن أصابها الهزال وأدركها الموت، فجزع وتشتت فكره ولم يدر كيف يفعل، حتى رأى غرابين يقتتلان فلما صرع أحدهما الآخر حفر حفرة ووارى فيها ذلك الميت، فاهتدى حي إلى أن يصنع ذلك للظبية؛ فكأنه قابيل جديد.
وقد وقف حي متعجباً حين رأى ناراً تنقدح في شجرة، ولما مد إليها يده أحرقته فأخذ قبساً منها وظل يمده بالحطب، واعتقد أنها أسمى الأشياء، وظن أن الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظبية لا بد أنه من جوهر النار، وأكد ذلك في نفسه ما كان يراه من حرارة الحي وبرودة الميت.
وقد قام بتشريح الحيوانات ولم يزل يفكر فيما يراه حتى بلغ في ذلك مبلغ كبار الطبيعيين، فتبين له أن كل حيوان وإن كان كثيراً بأعضائه فإنه واحد بتلك النار التي فيه، أي الروح. ثم اكتشف مذهباً فلسفياً يوضح به سائر حقائق الطبيعة من حوله، وترقى في ذلك حتى أثبت وجود إله صنع كل هذا ونسقه. ثم اعتكف في مغارة وصام أربعين يوماً متوالية، واجتهد في أن يفصل عقله عن العالم الخارجي، بواسطة التأمل المطلق كي يدرك هذا الإله ويتواصل معه إن أمكن.
وكان هذا بعد مضي سبع سبعات من السنين، أي تسع وأربعين سنة، وعندها التقى "أبسال". وهو رجل تقي جاء إلى الجزيرة نفسها هرباً بدينه بغرض العزلة والتعبد. وكانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها حي إنسانا عرف مباشرة أنه من فصيلته.
وبعد مدة وجيزة كان أبسال قد علّم حيّ لغته، وعرض عليه أصول ديانته، فرضي حي منها بأشياء وأبى أشياء، زعم أن الناس لا بد أنهم ألحقوها بالدين.
وحتى هنا يمكن أن تلاحظ أن ابن طفيل عالج في قصته معظم مشاكل الفلسفة. وقال من خلال القصص إن صاحب الفطرة المستقيمة يمكنه أن يتدرج في المعرفة من المحسوس إلى المعقول، حتى يتعرف على وجود الخالق سبحانه. لذلك عندما التقى "حي بن يقظان" -وكان قد وصل إلى الحقيقة بالنظر العقلي- بـ"أبسال" -وكان قد عرفها من الدين- وقص كل منهما على الآخر خبره، ثبت لهما -ولنا أيضاً- أن الحقائق التي وصل إليها بالعقل وتلك التي عرفت بالوحي متطابقة ولا تناقض بينهما. وبهذا لا يصطدم الدين بالفلسفة، بل يتقرر بينهما الوئام!
ومن ثم كانت المرحلة الأخيرة في تفكير حي بن يقظان عندما اشتد إشفاقه على الناس في جزيرة أبسال، وطلب منه أن يأخذه إلى جزيرته، ليهدي أهلها إلى صحيح الدين كما اهتدى إليه.
وهناك سرعان ما اكتشف أن الناس من حيث التفكير أنواع أو طبقات، فبعضهم غير مهيأ للتفكير الفلسفي ويعرف الحقيقة عن طريق الشرع، وما يستخدمه من قصص وأمثال ورموز ظاهرة، ولو حاول التجريد ساء أمره، ووقع في الضلال. ومنهم من وهب استعداداً وعقلاً يدفعانه للتجريد والتفلسف، وهؤلاء تفيدهم المكاشفة بالحقائق المجردة وبالتعاليم الخفية والباطنية، أي مثل حي بن يقظان، ومثل ديكارت نفسه!
فديكارت وصل أيضاً خلال تجربته الفلسفية لمعرفة الحق عقلياً، وكان هذا جديداً في عصره. وديكارت لمن لا يعرف ينتمي لعصر أوربي يسمى "عصر الباروك". وقد اهتمت الفلسفة في هذا العصر بالبحث عن أسلوب عاقل للمعرفة من أجل إيضاح "صحيح" للعالم، متحرراً من اللاهوت وسلطة الكنيسة التي تضاءلت مقابل سلطة العلم التي مثلها جاليليو وكبلر ونيوتن.
وكان لهذا كله أثره على الفلسفة التي استفادت من العلوم الطبيعية في شكلها الجديد. وبرز آنذاك اتجاهان رئيسيان في الفلسفة: اتجاه تجريبي يمثله بيكون وجون لوك، وآخر عقلاني يمثله ديكارت وسبينوزا ولايبنتز.
وبالطبع لم تكن الأمور ميسرة لفيلسوف مثل ديكارت بسبب سيطرة الاتجاه الكاثوليكي المتطرف على بلاده فرنسا، لذا هاجر إلى هولندا سنة 1629. في جو هولندا المتسامح كتب ديكارت معظم مؤلفاته: "مقال في المنهج" (1637)، و"تأملات في الفلسفة الأولى" (1641)، و"مبادئ الفلسفة" (1644)، و"رسالة في انفعالات النفس" (1649).
ومن هناك أجاب دعوة ملكة السويد (كريستينا) وذهب إلى استكهولم حيث لقي حتفه في 11 فبراير/شباط 1650. وآنذاك قيل في سبب وفاته إن الملكة اعتادت أن تلتقيه، لمدارسة الفلسفة، في الخامسة صباحاً، ومع مرور الأيام وبسبب طقس السويد البارد أصيب ديكارت بالتهاب رئوي شديد مات بسببه، ثم نقلت بقايا جثمانه إلى فرنسا عام 1667م.
وظللنا نعتمد تلك الرواية عن سبب الوفاة حتى أصدر المؤرخ الألماني تيودور إيبرت كتابه المعروف: "الموت الغامض لرينيه ديكارت" (2009). وفي هذا الكتاب كشف أن ديكارت مات مسموماً على يد أحد رجال الكنيسة الفرنسية، الذي ذهب إلى السويد خصيصاً للقيام بالمهمة، وأثبت أن ديكارت ذهب إلى كنيسة السفارة الفرنسية في استوكهولم، وفي طقس "التناول الكنسي" وضع الراهب الفرنسي قطعة خبز مسمومة في فم ديكارت فقضى عليه!
والطريف أن أحداً لم يكفّر ابن طفيل الذي كان يطبب الحاكم ويسامره في الفلسفة أيضاً. وقد عاش معززاً مكرماً حتى إذا عجز اختار خليفته (ابن رشد) ثم مات في هدوء سنة 581هـ/1185م. وهذا ما لم يتيسر لديكارت للأسف، فالكنيسة الفرنسية رأته خطراً عليها وقتلته، ولكن هذا يشبه نوعاً ما اغتيال فرج فودة على يد بعض المتشددين لدينا. وقد مَثل عادل إمام فيلماً عن اغتيال فرج فودة. ولما نجح الفيلم فكر بعد أزمة ترقية نصر حامد أبو زيد التي تطورت للتهديد بقتله فلجأ إلى هولندا كما فعل ديكارت من قبل. وعندما التقيت نصر حامد أبو زيد في ألمانيا سنة 1999 ذكر لي أن عادل إمام خطط للأمر بالفعل، وأنه زاره في سكنه بهولندا وتحاور معه وصور جنبات الشقة وانصرف. ولكن المشروع كما قال الدكتور أبو زيد توقف عند هذا الحد. وظني أن عادل إمام؛ لأنه رجل دبوس بالفعل، قد "تشكك" في إمكانية نجاح فيلم كهذا فصرف عنه النظر، وهذه بالطبع مجرد شكوك!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.