عرفني على حلاوة الاعتزال والخلوة وحوّل المشقة إلى المتعة.. مما علمني صديقي الجبل

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/08 الساعة 13:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/08 الساعة 13:30 بتوقيت غرينتش
iStock

خلف منزلي السويسري مباشرة جبل كثيف الأشجار، ومن فوقه غابة خضراء، كان الجبل ومازال هو صديقي الوحيد الذي يشاطرني أفراحي، ويقاسمني الأحزان والآلام.
مازلت أتذكر أول مرة حاولت فيها صعوده وتسلق كبريائه، وأحسست بإعياء وارتفاع في ضربات قلبي.. ما لك يا قلب؟ أهو إعياء الصعود أم إثارة المشهد؟ أم أنها مهابة التجربة؟ أم ترقب العثور على حلمي المنشود بالأعلى؟

صديقي الجبل من ذلك النوع من الجبال الذي لا يفاجئك بارتفاعه مرة واحدة، بل يحنو عليك ويستدرجك، يتناولك رويداً رويداً على شاكلة المصعد الممهد.

يرحب بك ويحتويك شيئاً فشيئاً، فتصعده دون أن تدرك مدى ما قطعت من مسافة شاهقة، ليفاجئك هو بهول الارتفاع بعد حين عندما تنظر خلفك بما قد حققته وقطعته فعلياً في طريق الوصول إلى قمته.

وخلال رحلتي اليومية معه، علمني صديقي الجبل ثلاثة دروس مهمة للحياة:

أولها، تعلمت أن تكرار الصعود ينسيك تعب المرة الأولى ويدربك على المثابرة أمام مرتفعات الحياة وتحدي صعوباتها.

ولقد علمني أيضاً أن ذلك الصعود يقوي الإرادة ويشحذ الهمم ويرفع عزيمتك.

إذ تتعالى على شعورك بالتعب وتلاحق أنفاسك وضربات قلبك، وتستبدل المشقة بتلك المتعة المحببة والعلاقة الوثيقة بصديقك الحجري.

إذ تهفو إليه روحك وتشتاق، كلما نازعتك مشاكل الأرض، فتهرع إليه مستنجداً بصخوره ومحتمياً بأشجاره العالية وكثافة غاباته لتهرب فيها من دنيا الناس.

فعندما تقف على قمته، ناظراً تحتك،  تجد دنيا الناس صغيرة ضئيلة لا تستحق ما أنفق عليها من حزن ودموع، فتتعالى روحك عن صغائر وهفوات دنيا البشر.

هذا الجبل الصديق يعينني ويعلمني أن أضع كل شيء على الأرض في حجمه الحقيقي. كل شيء يبدو من قمة صديقي رمزياً للغاية، هنا توضع الأمور في حجمها الحقيقي وفي نصابها السليم.
حينها فقط تتسامى عما أحزنك وأحبطك وما أسعدك أيضاً. ولا عجب أن تسلق الجبال والاعتزال في الغار كان سنة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ليترفع عن دنيا الناس وصغائرهم ولهوهم. 

ولا عجب أن تتنزل عليه الرسالة وهو على جبله المحبب، ليكون الجبل شاهداً على بزوغ فجر حقبة جديدة تغير وجه العالم إلى الأبد. 

مهما حدث.. الحياة لا تقف

ذلك كان الدرس الأول، أما الثاني فهو ما علمنيه صعود الجبل بأن الدنيا لا تقف عند فصل واحد ولا عند مشهد واحد، ولا تقف حتى عند حبيب واحد.

فهذه المدقات الممهدة في طريق الصعود تختلف باختلاف الفصول الأربعة، وتتزين بجمال أخّاذ بألوان عدة كل مرة أصعد تلو المرة الأخرى. 

كم مررت عليها صيفاً فأجدها مشبعة بقطرات الندى والمطر الخفيف، قطراته تلك التي تخترق حذائي وتبلل أصابعي الناعمة. ولربما أزورها شتاء فأجدها قد اكتست كبيضاء الثلج الفاتنة. ها هي الآن كالعروس المغطاة بهذا البساط اللؤلؤي. وها أنا أجدها مرة أخرى صفراء جافة، أرضها حارة ذات شقوق، ترجف تحت وطيس الشمس الملتهبة صيفاً.

ولكن من المؤكد أن عشقي الأبدي لها هو اليوم، حين وجدتها مكسوة بهذا اللون الذهبي الخريفي، وأوراق الشجر تتدرج بين البني والذهبي، تغطي كل الأماكن فتكسبها حياة جديدة.

وكأن أوراق الخريف أرادت ترك بصمتها الأخيرة بإمضاء أنيق منها على هذه اللوحة الرائعة في هذا المكان الذي عاشت فيه جل حياتها قبل الفناء.

وهكذا نحن البشر، نتعلم ألا نتعلق ببشر أو مكان.. فلكل مرحلة حياتية جمالها ودروسها وبواعث الأمل منها وفيها.

تعلمت أن أجمل وأنجح مشاهدنا قد يكون مشهد النهاية، حين يسدل الستار على كل إنجازاتنا الحياتية لننهيها نهاية فاخرة تليق بكل ما عشنا له ومن أجله.

حلاوة الاعتزال والخلوة 

كان ذلك الدرس الثاني، أما الثالث فتعلمته عند صعود الجبل، عندما ألهمني أن التغاضي والتغافل عن زلات البشر إنما هما ثمرة من ثمار النزوع إلى اعتزال البشر.

وعلمني، أيضاً، أن اعتلاء قمم الجبال إنما هو رمز نفسي صارخ لتلك الرغبة العارمة لديّ بأن أخلو بنفسي. أن أترك لهم الأرض بما رحبت، وأن أعافر مشقة الصعود فقط لأبتغي ذلك السبيل هجراً للبشر والسعي للالتقاء بروحك على انفراد.

هناك فوق تلك القمة… وفوقها فقط أستطيع الالتقاء بنفسي التي افتقدتها كثيراً وسط دوامات الحياة الصاخبة وسقطت مني سهواً في دنيا البشر.. وتاهت ما بين تفاصيلهم الكثيرة.

هناك فوق تلك القمة أستطيع التحدث مع نفسي بصوت عالٍ وواضح وصريح. 

صوتي الذي كنت أحرص دائماً على خفضه وتزيينه بطريقة ملائمة خوفاً على مشاعر من حولي وأحاسيسهم، متجاهلة في الوقت نفسه صوت روحي المحبوسة بداخلي الذي لم ألتفت إليه أبداً رغم نداءاته المتكررة.

هنا فقط سوف تستطيع معاتبة نفسك إن شئت على زلاتك وهفواتك الماضية، وقلة خبرتك حينها، قبل أن تعود فتُربت عليها لتطمئنها بأنك قد سامحتها وغفرت لها وقبلتها كما هي بكل أخطائها وغدراتها وفجراتها.

هنا تعلمت أنه إذا كان الله يقبل التوبة من عباده وهو رب العالمين، أفلا تقبلها أنت وأنت ذلك العبد الفقير؟

هنا فقط تستطيع تفريغ جوف روحك من كل النفايات والهموم المتراكمة التي تحملتها طويلاً طوعاً أو كرهاً.  همومها وهموم البشر ممن حولك أيضاً والذين اختاروا هم أن يبوحوا لك بهمومهم وأحزانهم لتغدو أرواحهم هم بعدها أصفى وأنقى.. وليتركوا بداخلك أنت آثار أحزانهم.  ولتحتاج أنت بعدها بدورك إلى أن تغسل روحك المنطفئة بالماء والثلج والبرد المنهمر من قمة الجبل. تحتاج بشدة إلى من تشكو له حملك الثقيل، وكأنما تحمل أنت عنهم خطاياهم وتصعد بها إلى تلك القمة السامية فتلقي بخطاياك وخطاياهم معاً هناك وتتحرر منها ومعها.

وتنتهي جولتك فتعود هبوطاً مرة أخرى إلى دنيا البشر نقياً عذباً طاهراً كطفل ولدته أمه للتو واللحظة، تاركاً هناك عند قمتك الحبيبة كل شيء، وتاركاً لله الأمر كله، ليدبر لك الأمر هبوطاً من السماء إلى الأرض، ولتستعين أنت بتدبيره صعوداً إلى قمة صديقك الحجري مرةً أخرى بعد حين.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ريهام محفوظ
كاتبة ومدوّنة
أخصائية علم النفس السريري وكاتبة مقيمة بسويسرا
تحميل المزيد