يؤكّد عالم الاجتماع العربي ابن خلدون أنّ تطور المجتمعات يرتبط أساساً بظروفها الاقتصادية ويبيّن أنّ الحكم في تاريخ إفريقيا "قائم على العصبية". وتعني "العصبية" الترابط القوي بين الأقارب والعلاقات المتينة بين أفراد القبيلة، ويتسع معنى العصبية ليشمل العبيد والمرتزِقة والموالين لأسياد العشائر؛ حيث ينصر الأقارب والأنساب والمعارف بعضهم بعضاً سواء كانوا على حق أو باطل، فيحمون حدودهم ويشكلون قوة رادعة للقبائل الأخرى وتكون لهم تبعاً لذلك النعرة والغلبة والقدرة على الحكم بالقهر. وترجمت عبارة العصبية في لغات أخرى بـ"الأهل" و"الأصدقاء" و"روح الجماعة" و"الحزب".
تترسخ العصبيات في الأرياف أكثر من المدن وتكثر عندما تضعف الدولة، "فإذا نزل الهرم بالدولة وتقلص ظل الدولة عن القاصية، احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم، والنظر في حماية بلدهم، ورجعوا إلى الشورى وتميز العلية عن السفلة. والنفوس بطبعها متطاولة إلى الغلب والرئاسة، فتطمح المشيخة، لخلاء الجو من السلطان والدولة القاهرة، إلى الاستبداد"، هكذا تحدث ابن خلدون عن البلدان التي تضعف فيها الدولة.
أما الدعوة الدينية، فتقوي شوكة الحاكم و"تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها"، وفقاً لابن خلدون، حيث يرى المؤرخ أنّ الدين يوحد الناس ويذهب بالتنافس والتحاسد الذي قد يحصل بينهم، ثمّ يبيّن أنّ السياسة تتطلّب الواقعية في الفهم والمرونة في التعامل مع المتغيرات. لذلك لا تستوعب الفلسفات المثالية تقلّب الأحداث ولا تفلح الأفكار المتعالية عن الواقع في تغيير مجرى الوقائع. أما علماء المنطق من الفلاسفة، فمثلهم مثل علماء الرياضيات أبعد عن السياسة ومذاهبها كما ورد في مقدمة ابن خلدون، وذلك لأنهم يفكرون وفق قواعد علمية كلية عامة ويحلون المسائل الذهنية على نحو مجرد في حين تتطلب السياسة النظر في الأوضاع الخارجية الملموسة.
يقتضي الوفاء لفكر ابن خلدون إذن التأمّل في أحداث زماننا من زاوية نظر واقعية وفي عصرنا الراهن لا تتأسس الدولة المدنية الحديثة على "العصبية" وعلى مشاعر الولاء القبلي.
بل تقوم على سلطة عقلانية هي سلطة القانون والمؤسسات لذلك تحمي الدولة الحقوق والحريات بما في ذلك حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية الضمير. وأيضاً، تضمن كهيكل عام منظم للحياة الحق في الاختلاف.
ازدواجية الشخصية العربية
ومع ذلك يرى شق من المؤرخين المعاصرين أمثال المفكر العراقي (علي الوردي) في كتابه "منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته" أنّ المجتمعات العربية انفعالية ولم تمر بما مر به الغرب من مراحل تاريخية والشخصية العربية ازدواجية وتتذبذب في تقديره بين إعادة ترسيخ القيم التقليدية والانفتاح على قيم العلمانية المعاصرة. ويشير المؤرخ التونسي (هشام جعيط) بدوره إلى هذا التردد لا سيما أن العرب لم يمروا بتجارب إصلاح دينية كبرى وفاعلة من أجل مواكبة مستجدات العصر ويحذر المؤرخ من سطوة الأفكار العامية الساذجة حول الدين والعلمانية على العقل الجمعي. يذكر جعيط -يوم تكريم جامعة الدول العربية له (مارس 2019)- بأفكار المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، حيث يعتبر الفيلسوف الإيطالي المادي أنّ الثورة الفرنسية حذت في بعض جوانبها حذو الفكر المسيحي عندما نادت بقيم المساواة وكرامة الإنسان. وإنّ الثورة الفرنسية بهذا المعنى ثورة "مسيحية" أدخلت الدين في صراع التاريخ. ويوضح هشام جعيط تلك المسألة قائلاً "الدين لا يدخل في الصراع لكن السياسة وظفت الدين في الصراعات".
نظرية الألعاب
لقد شرح المؤرخون في تونس أصول الصراع السياسي باستفاضة بدءاً بمقدمة ابن خلدون حول "أيام العرب والعجم والبربر ومن عاشرهم من ذوي السلطان الأكبر" وصولاً إلى "الفتنة الكبرى" لهشام جعيط. لذلك يتعين علينا اليوم التفكير أكثر فأكثر في الحلول السياسية المتاحة والممكنة لحل النزاعات السياسية.
يمكن أن تحل النزاعات السياسية والاقتصادية الراهنة على نحو حسابي ناجع كما تحل المشاكل الرياضية. خاصة أنّ علماء الرياضيات المعاصرين أثبتوا مدى جدارتهم في التخطيط السياسي الاستراتيجي، وتبعاً لذلك -وعلى عكس ما ذهب إليه ابن خلدون قديماً- يمكن لعلماء المنطق والرياضيات أن يطبقوا نماذج مجردة على وضعيات واقعية تتماشى مع المعطيات الاقتصادية والسياسية في ظرفية تاريخية معينة.
نشأت هذه النظريات الاستراتيجية المعاصرة بعد الحرب الباردة، نذكر من بينها "نظرية الألعاب" التي كانت تهدف منذ ظهورها إلى معالجة مشكلات المنظومات الاقتصادية والسياسية والعسكرية على نحو عملي ونشيط. لا تنكر هذه النظريات والتصورات الصراع السياسي بقدر ما تسعى إلى إدارة الخلافات وتعمل على إرساء ضرب من الموازنة بين الأطراف المتصارعة بغية اتخاذ القرارات المناسبة وتحقيق المصلحة العامة المشتركة وتقليل الخسائر. تقوم الاستراتيجية الناجعة هنا على التحليل الرياضي لحالات تضارب المصالح لبلوغ أفضل الخيارات الممكنة.
أما عندما يتعلق الأمر بالمنافسة المطلقة بين أفراد رافضين لمبادئ الشراكة والتنسيق والتعاون والتفاوض، فإن الربح يقوم حسب هذه النظريات على عدم الاستهانة بذكاء الآخرين وبقدراتهم وعلى مدى استيعاب طرف ما لرغبات منافسيه وحساب ردود أفعالهم والتحكم في قراراتهم أكثر ممّا يقوم على فرض موقفه عليهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.