أمام الاكتساح السلطوي الجارف الذي يسحق كرامة المغاربة ويأتي على الأخضر واليابس من حقوقهم ومن مكتسباتهم، ويمعن في إذلالهم عبر إرجاعهم للوراء باستدعاء سطوة القايد والمقدم وما شاكلهما من مخلفات التاريخ المخزني البغيض، وأمام انتكاس المجتمع المدني والنخب والتيارات المعارضة التي فرضت على نفسها رقابة ذاتية وحكمها منطق الانحناء أمام العواصف المخزنية وانتظار انفراج سياسي موهوم يأتي به عقلاء النسق الرسمي المتخيلون، وفي الوقت الذي ظنت فيه السلطة المغربية أن الأوضاع استتبت لها عاد الشارع الاحتجاجي ليلتهب من جديد، لكن اللافت أن من قاده هذه المرة هي التنسيقيات التي طالما تم النيل منها والاستخفاف بمطالبها الفئوية.
حيث بصمت على جرأة استثنائية في تحدي الحجر المخزني على الاحتجاج السلمي وفي اختراق تطويق مدينة الرباط وهزم تلك العقلية المنكفئة التي تتقوقع حول العاصمة والتي تسيجها كأنها أمام غزو خارجي وليست أمام متظاهرين سلميين يمارسون حقهم في الاحتجاج. وهكذا فقد تمكن عدد من التنسيقيات (الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، حاملو الشهادات، المتصرفون التربويون، الممرضون المتدربون…) من إنجاح أشكالها النضالية وخلق إشعاع داخلي وخارجي يسلط الضوء على مطالبهم ويفضح وضع البلاد الحقوقي شديد القتامة.
هذا الوضع يربك مخططات السلطوية التي عبرت عنها بتهديدها الصريح للمغاربة عبر أبواقها الدعائية بأن ما قبل كورونا ليس كما بعدها بعد حملاتها الترهيبية واسعة النطاق لكل صوت حر في زمن الحجر الصحي. لكن هل يمكن للاحتجاجات الحالية أن تفشلها وتقطع معها نهائياً وتدشن مرحلة جديدة تصان فيها حرية المغاربة وكرامتهم، أو تعيد فيها على الأقل مناخ توازنات ما بعد خطاب السكتة القلبية إلى ما قبل حراك الريف على سوءاته؟
لا نُفْرِطُ في التفاؤل ولا نحمل الحراك الفئوي أكبر من إمكانياته، لأن الاستبداد بنيوي ومتجذر في التاريخ، لكن المؤكد أن نضال التنسيقيات قادر على فرملته في الوقت الراهن بمستويات معينة وبإمكانه إعادة الثقة للشعب في قدرته، حتى لو على مستوى مطالب جزئية ذات خصوصية فئوية، على أخذ زمام المبادرة والضغط على الطرف الرسمي وإحراجه وتحطيم هذيانه، الذي أصابه إبان الجائحة والذي جعله يتأله على المغاربة، وحشره في دائرة ردود الأفعال وفي محاولة إطفاء الحرائق التي أشعلها وإيجاد التخريجات الكفيلة لذلك كما يصنع في ملف الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد حالياً.
حراك التنسيقيات مدرسة حقيقية تؤسس لوعي شرائح واسعة من المجتمع بطبيعة الوضع السياسي والاجتماعي في البلاد، فمن فاته التكوين النضالي زمن الحركة الطلابية في الجامعات فإن حراك التنسيقيات يتكفل بسد هذه الثغرة في شخصيته ويقوم بإخراجه من سلبيته.
حيث يبدأ الشخص المقصي من أحد حقوقه المادية بالمطالبة به عبر الانتماء للتنسيقية التي تمثل ملفه المطلبي والانخراط في نضالاتها، فيفاجأ بلا مبالاة المسؤولين وبالإصرار على السرقة الموصوفة لحقه المهضوم الذي لا يكلف خزينة الدولة شيئاً، كما يصدم بالتعامل الخشن الذي يواجه به من طرف القوى القمعية في العاصمة هو الذي كان يظن أنه ذاهب في نزهة إليها، فيتحول النضال عنده من نضال خبزي إلى نضال من أجل الكرامة ويصبح انتزاع حقه بمثابة انتصار معنوي له ورد للاعتبار بعد التنكيل به، ثم ما يلبث أن يتحول ملفه إلى ملف حقوقي بوجود اعتقالات ومتابعات وأحكام قضائية، وهكذا كلما تصعد الدولة من إجراءاتها التعسفية كلما تزول الغشاوة المخزنية عن بصره وبصيرته حتى أنه يبدأ في ترديد شعارات لم يكن يتوقع أنه سيتبناها ويؤمن بها.
طبعاً هذا الأمر لا يحدث للجميع، حيث إن المقاربة القمعية تسقط ضحايا كثراً وعدداً من التنسيقيات تموت في بداياتها، لكنها تحدث فرزاً بين الملفات المستحقة وغيرها فلا يصمد في الميدان إلا الجادون فعلاً في تحصيل حقوقهم. لذلك فمن العبث نعت أولئك المناضلين بالخبزيين، لأن من يعرض حياته للخطر وجسده للإعاقة أو الاعتقال لا يفكر بمنطق الربح والخسارة. المعضلة في الظروف الموضوعية القاهرة التي تفرض عليهم الاشتغال في ميدان مسيج يستنزف كل جهودهم من أجل مطالب محدودة بفعل سهام السلطة وحصار الإطارات النقابية التقليدية ومحاولة اختراقها لتنظيماتهم.
التنسيقيات هي أكثر الإطارات ديمقراطية في الساحة، ويكفي أنها استطاعت أن تشكل برلمانات مصغرة تجمع مختلف التيارات والاتجاهات المتناحرة التي لا تلتقي إلا في هياكلها الداخلية، وهي تستوعب كل صراعاتهم التي ينقلونها إليها مما يعطيها بعداً وحدوياً يمكنها من انتزاع شرعية تمثيل الفئة التي تنتمي إليها وتجسيد الفسيفساء المجتمعية المتنوعة، على أنها تدفع ثمن ديمقراطيتها في عدم قدرتها على تصعيد مطالبها، حيث يبقى المطلب الذي من أجله تأسست هو الجامع بينها وهو الحد الأدنى الذي يتم التوافق عليه على مضض.
صحيح أن أمد التنسيقيات قصير وتزول بزوال شروط بقائها بعد تحقيق مطالب الشريحة المناضلة، لكن تأثيراتها في الواقع الاحتجاجي لا تختفي، ذلك أنها تتحول إلى تجارب مرجعية تحفز على الاقتداء بها والنسج على منوالها، كما أن آلياتها وأساليب اشتغالها تعمم، بالإضافة إلى أن بعض الناشطين المنتمين لها يستأنفون النضال بعناوين ومطالب أخرى، وهو ما يؤكد الاستمرارية ونقل المعركة من إطارات غير قادرة على الصمود في المشهد النضالي إلى إطارات جديدة، الشيء الذي يرسخ الثقافة الاحتجاجية في عموم المجتمع.
حراك التنسيقيات لم يكن يخلو من سلبيات منها التنافر بين شركاء الميدان الاحتجاجي وسيادة الحسابات الضيقة الناجمة عن الأنانية والغيرة بين الأطراف المحتجة، وهي أمراض رعتها السلطوية حين كانت تنهج سياسة فرق تسد، والذي زاد من حدتها أن السلطة رغم ممارساتها القمعية لم تكن توصد الأبواب كلها لحلحلة عدد من ملفات بعضهم المطلبية، مما أسهم أيضاً في التخفيف من الاحتقان المجتمعي، وهو ما اصطدم به الحراك العشريني حين وجد الأرضية الشعبية غير جاهزة لاستيعاب مطالبه التغييرية الكبرى.
لكن الصورة اليوم معاكسة تماماً، فمع الاستعصاء السلطوي وصم الآذان حيال جميع المطالب الشعبية بدأت تذوب الحساسيات بشكل تدريجي، وأدرك الجميع أن الانعزال لن يقود إلا إلى استفراد المخزن بهم الواحد تلو الآخر وإلى الاستنزاف الذاتي وأن الحل يكمن في إبداء التضامن بينهم وفي البحث عن السبل المتاحة لتجسيد الوحدة ولو بالتنسيق الميداني في بعض المحطات النضالية، وهناك إرهاصات قوية للتقارب وتجسير الهوة تم التعبير عنها بالتلاحم غير المسبوق مع نضالات الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد بعد الحملة الأخيرة التي تعرضوا إليها، وهو إن كان غير كاف إلا أنه غير مسبوق، فلأول مرة تنجح تنسيقية فئوية في كسب تعاطف الزملاء العاملين في نفس القطاع، ومن ورائهم عموم المجتمع.
حراك التنسيقيات يمثل في الظرفية الراهنة تمريناً عملياً لفهم حقيقة خيوط اللعبة المخزنية والمتحكم الفعلي في دقائق الأمور فضلاً عن الملفات الكبرى في البلاد، فما كان يصعب لقطاعات مجتمعية عديدة إدراكه لأنه كان يمرر لهم بشكل نخبوي فوقي هم يكتشفونه الآن من وحي تجاربهم الميدانية، وتلك خطوة ضرورية لعدم الافتتان مستقبلاً بأية مسكنات تقدم للتعمية على الواقع وعدم الالتهاء بالدمى التي يتم تحريكها من وراء حجاب، وكذا لبناء فعل احتجاجي يتجه لأصل الداء ولا يلتهي بآثاره الجانبية بعد أن ارتكبت السلطوية خطأ فادحاً بالمساهمة في تعميم المزاج المعارض لها و لممارساتها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.