الاقتراب من الذات أم الابتعاد عن البشر.. لماذا نختار الانعزال؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/03 الساعة 13:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/03 الساعة 13:06 بتوقيت غرينتش
iStock

"الإنسان كائن اجتماعي بطبعه"، جملة ترَّسخت في أذهاننا منذ نعومة أظفارنا، و"التعليم في الصغر كالنقش على الحجر" كما يقولون، لكنْ يبدو أن نظرية علماء الاجتماع هذه قد تغيّرت في زماننا الحاضر، قد يكون السبب في مدى علمية وواقعية هذه الجملة، أو طبيعة النقاش، أو حتى الحجر الذي قُدَّ ربما من جليد ذاب مع الوقت وليس من صخرٍ كما كنا نعتقد.

لم يخطئ عالِم الاجتماع العربي ابن خلدون في مقولته التي ذكرها في مقدمته عندما أكّد أنَّ طبيعة الإنسان المتأصلة تميل إلى الاجتماع مع بني جنسه. فالله -سبحانه وتعالى- فطر البشر على التفاعل والتعامل والعيش مع الآخرين، لكن في الوقت نفسه يشجع علماء النفس على الوحدة كونها تساعد على الإنتاج العلمي والإبداعي المكثَّف، الذي يفوق جودة الذي يعمل وسط مجموعة، سواء كانوا عائلة أو زملاء.

وكذلك النصوص الدينية، هناك الكثير منها يدعو الإنسان لطلب الوحدة، وإن اختلفت المسميات لها، فالرسول -صلوات الله عليه- كان يقضي الكثير من الوقت في غار حراء، وقبل الديانة الإسلامية كانت اليهودية والمسيحية تعتبر الانعزال عن البشر قيمة سامية، تساهم في بناء الإنسان والبحث عن ذاته أو التعرف عليها.

وهنا نتساءل عن الذي ينشد الجلوس وحيداً في بعض أوقات يومه، هل هو خيار صحيح، وهل الانعزال بين الفينة والأخرى نمط حياتي سليم؟!

الوحدة كالدواء.. قليلها ينفع وكثيرها يضر

 الجواب في الحقيقة يختلف من شخص إلى آخر ومن حالة إلى أخرى أيضاً، وكذلك مبررات الوحدة ونتيجتها لها دور كبير في تحديد ذلك.

الوحدة بدايةً كالدواء، قليلها ينفع وكثيرها يضر، فالجرعات العالية منها قد تؤدي إلى مرض نفسي وانعزال عن المحيط، فالصعوبة في التعامل معه بعد ذلك، هذه واحدة، والأخرى أن الوحدة قد لا تصلح لذوي الأعمار الصغيرة من أطفال ومراهقين والعقول الصغيرة أيضاً وإن كانوا كباراً في العمر، فإن كان الطفل انطوائياً ومن دون سبب مباشر أو غير مباشر فهذا قد يدل على حالة مرضية تستوجب المراجعة.

وأيضاً طبيعة الإنسان وطبيعة مهنته أو عمله أو حتى هوايته تحدد أهمية ووجوب الوحدة لساعات طويلة أو لا، فالمخترع والمكتشف والكاتب والرسام يختلفون عن المحامي والمعلم وغيرهم، فكلهم يؤدون نشاطاً سواء وحدهم أو مع الناس، وهناك إنتاجية تأتي بعد انعزالهم لبعض الوقت، سواء على الصعيد الشخصي أو النفسي أو المجتمعي العام.

إذن الأمر غير ثابت ونسبي، وحتى التشريعات الدينية نراها تدعو إلى الوحدة أحياناً كما في الاستيقاظ لصلاة الليل، أو التفكر ومحاسبة النفس ومراجعتها، وأيضاً الاعتزال عن القوم الفاسدين، أو بعد جحود الأهل كما في قصة أصحاب الكهف والنبي عيسى، نجدها في حين آخر تشجع الناس على العمل الجماعي كصلاة الجماعة والحج وغيرها.

في الحقيقة نحن نحتاج إلى تقسيم عادل مع أنفسنا وإعطائها الحق في الابتعاد وجلوسها وحدها قليلاً، والتحدث معها على انفراد، فذلك يبعث على الطمأنينة، وأيضاً لا ننسى معاشرة الإخوان بالمعروف، فالوحدة في كثير من الأحيان تكون رحماً كبيراً للإبداع والإنتاج المتميز، وأيضاً قد تكون طلباً للراحة والابتعاد عن البشر قليلاً، وما أجمل أن يقضي الإنسان وقته وحيداً مع كتاب مثلاً، أو أمام طبيعة يتأمل عظمة صانعها، وفي هذا الجانب يتفوق علينا الغرب، فليست هناك مشكلة لديهم إن رأوا أحداً يجلس وحده في حديقة أو مقهى، أما عندنا فيعتبر ذلك جنوناً أو ضعفاً في الشخصية أو مرضاً نفسياً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

رقية تاج
قاصّة وكاتبة مقالات
رقية محمد صادق تاج، عراقية وُلدت في دمشق سنة 1990، حاصلة على بكالوريوس إعلام، قسم الصحافة، جامعة بغداد. كاتبة مقالات وقاصّة، لها مجموعة قصصية قيد الطبع، وحالياً هي مديرة تحرير موقع "بشرى حياة".
تحميل المزيد