عزيزي فان غوخ.. لماذا أطلقت النار على صدرك؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/02 الساعة 08:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/02 الساعة 08:51 بتوقيت غرينتش
الفنان العالمي فان غوخ - unsplash

إنّ الإنسانَ بطبعه كائنٌ أنانيٌّ، ومُحبٌّ للخلود، أي أنّ به نزعةَ تَمَسُّكٍ بالحياة، لكن، لماذا يُقدمُ الأشخاصُ إذاً على الموتِ والانسحاب من الحياة؟

قبلَ مدّةٍ طويلة، انتحَرَ طالبٌ مصريٌّ، وللآن، لا أستطيع أن أنسى الطريقة التي زَجَّ بها نفسه، وقفزَ فيها من أعلى البُرج ما أن انشغلَ صديقه قليلاً، تلكَ القفزةُ لم تكُن بالمُطلق قفزةً عاديّةً، بل حتماً سيُخَيَّلُ للنّاظر إليه أنّ هُناكَ ما يستهويه في الأسفل، ربّما ذراعٌ مفتوحة لشيء وحده يعرفُ كُنهه ولا يستطيع تحمّل مسافة الدّرج لينزل إليه فاختار القفز.. كي يصل بسهولةٍ. في اللحظة التي أمسَكَ فيها صديقه بيده، انتظرتُ منه أن يُحكمَ القبضةَ، ألّا يفلتَ يده، أن يندَمَ، أن يحدث شيءٌ ما يجعله متشبّثاً بالحياة ويقاومُ ولو بإمساكه للفراغ، لكنّه لم يَفعل، وخذلني ظنّي وأملي به.. فغادَرَ مُستعجلاً.

أحياناً في عزِّ أسوأ المراحل التي تنتابُني، إذا ما سَقَطت أمام عينيّ رسالةُ مُنتحر أقرَأها، فأجد بها سُطوراً تُشبهني، تُشبهني جداً، لكنّني في ختامِ كُلّ حَرفٍ منها أقول: الانسحابُ ليسَ حَلّاً. وعلى حدّ قول محمود درويش، رغم كلّ شيءٍ، ما زال على هذه الأرض ما يستحقّ الحياةَ.

ومن بينِ كُلّ الرّسائل التي تَرَكها المغادرونَ قبل رحيلهم، تَصلبُني الرّسالةُ التي كَتَبَها فان غوخ لأخيه ثيو قبلَ انتحاره، فأتأسَّفُ جداً لما آلت إليه حياةُ الفنّان الذي لا يَرَى إلّا طيفَ حياةٍ لا لَونَ فيها، ومنهُ، فقد كان الفنُّ بالنّسبة له بمثابة ردّة فعلٍ أبدعَ بها فَنّاً وفُرشاةً يَخلُقُ بها ألواناً جديدة، ويعيشُ في ظلالِ لوحاتها المُلوّنة.

عزيزي فان غوخ.. 

إنَّكَ مُحقٌّ في اعترافك بأنّ العقلَ أحياناً يَصنَعُ منّا أشخاصاً كئيبينَ كعجينةٍ يتحكّمُ بها كيفما يشاءُ، تارةً يصنعُ منها خُبزاً يابساً، وتَارةً أخرى يصنعُ بها فطائر مُحلّاة والكثير من أصناف الكعك اللّذيذ، لكنّ الغالب على طَبعه، أنّه يُحبُّ صناعةَ الحلويات في قالَبٍ مُشابه، تارةً بنكهة الشكولاتة السّوداء المُرّة، وتارةً بطعم الفانيلا المُثيرة.

كانَ لِكُلّ منّا ما يُقاومه، وما يُقاومُ به، وكما كُنتَ تُقاومُ بالفنّ، أُقاومُ أنا بالكتابة، لكنّ هذه الكلمات لن تُعيدكَ على أيٍّ، ولا عزاءَ.

قرأتُ مُؤخّراً أنّ الأشياءَ لا تحمل أيّ معنى، وأنّنا من يمنح الأشياءَ معناها الحقيقيّ، فلماذا كانت كلّ الأشياء معك، تغدو باردةً وباهتة؟ هل كانَ البريقُ الحزينُ انعكاساً لما تحمله في داخلك أم أنّها قُوّةٌ قهرية خارجية؟

أكادُ أجزمُ أنّك لم تُعان من سوءِ نَظرٍ، وأنّ عينكَ فقط كانت أجمَلَ من القُبح المُحيط بها، فقد كانت عيناً سحريّةً تُشيرُ وحدها إلى مواطن الجمال البسيطة، والألوان الفاقعة المُبهجة.. فهل في هذا تتجلّى الخصوصية الفنّية التي تحدّثت عنها؟ وعينُ الكاتب لا تُخطئ.

عزيزي فان غوخ.. 

لا أخفيكَ القولَ، في هذه اللّحظة وقفتُ مندهشةً في قولكَ أنّك رسمتَ صورتَكَ الشّخصية وحاولتَ تجديدها فقد أنهكك وجهك المُكرّر الذي لا يتجدّد. وبعدَ أن قرأتُ عن تشكيلك الجديد لوجهك، حاولتُ تخيُّلَ الأمرِ، وبكبسة زرٍّ على مُحرّك البحث كتبتُ اسمكَ لأقارنَ بينَكَ، وبينَ ما رسمهُ خيالي.. لكنّني صُعقتُ، واهتزَّ قلبي، كيفَ أمكَنَكَ قطعُ جزءٍ من أذُنك؟ عُدتُ لقراءة وصفِ وجهك، فوجدتُكَ قد كَتَبتَ أنّها فقط كُتلةٌ لحمية، ولا حاجة لك بها.

لا أستطيع أن أصدّقَ، ولا أريدُ تصديق الشّائعاتِ عنكَ حتّى، لكن.. أيُّ حُمقٍ هذا في أن تُرسلَ جزءاً من أذنكَ للمرأة التي لم تعرف قيمتك؟ هل اعتقدتَ بهذا أنّها ستسمعُكَ وتسمع انتحابك وصراخاتك كلّها ما أن تَضَعَ اللّحمةَ على أذنها كصَدَفَةٍ تفضَحُ دواخل البَحر كُلَّما اقتَرَبَت من أيّ أُذُنٍ.. بل لعلّ تأويلي هذا خابَ، فلم تُردف في شرحك سوى قولك لها: "إليك أذني أيّتها المرأة الثرثارة، تحدّثي إليها.. الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي".

عزيزي فان غوخ الذي اعتبَرَ الرّيشةَ واحدة من أصابعه، بل أصبعاً سادساً إضافيّاً.. 

لم تَكُن العفوية في ألوانك ولا حتّى في الفُرشاة، كانت العفويّة نابعةً منكَ، وحدك.. كما لو أنّكَ صبيٌّ طاهرٌ من الآثامِ وللتّو خَرَجَ من بيضةٍ، لكن، من وُجدَ أولاً هل أنتَ أم الرّيشة؟ أتخلّى عن الإجابة، فقد كانَ واضحاً أنّ الإنسانَ يولدُ بأصابعه، ولم تَكُن الرّيشةُ إلّا أصبعَكَ السّادس المُلتصق بك، منذ أن تفقّست البيضة.

شاخَ العالَمُ، ولم تَشخ ذاكرتُك، لو أنّها شاخت فقط، لمَا جعلت الزوابع تلتهمك، لو أنّ التجاعيدَ طالَت الفكرة التي كانت تُلحُّ عليكَ، لكُنتَ قد بقيتَ، ولما انسحَبتَ يا عزيزي، أتساءلُ، هل كانَ انسحابُكَ جُبناً أم أنّه كانَ ضرورةً حتمية؟ فأقولُ في نفسي، بجزمٍ، وحزمٍ: ما كان عليكَ أن تستسلمَ لهذه الأفكار، فقد كُنتَ أقوى من أن تجعَلَ عواصف الحياة تُزلزلك، لكنّني.. أجهلُ ظروف حياتك، ومع هذا، فإنّني أؤمن أنّنا وإن لم نقتسم الخيرات بالتّساوي، فإنّنا نقتسمُ العذابَ، وكلّنا يُعاني، وليست المُعاناةَ سوى تعريف للحياة، فمن أعمى عينَك التي تقتنصُ الجمالَ من أن لا تجدَ مخرجاً أم أنّ المخرجَ كانَ باباً باهتاً، ولم يغُرّك الاقترابُ منه ففضّلت الفرار نحوَ ما تراهُ ربيعَكَ الأخضر؟

لم تَكُن الأحلامُ تُعيقُكَ يا عزيزي، وكُنتَ تُسافر نحوها كثيراً، فهل تلقّيتَ طعنةَ واقعٍ طرحتكَ أنتَ وأحلامك أرضاً أم أنّه كانَ محضَ اختيارٍ؟

عزيزي فان غوخ.. 

أمَانَةُ التُّرابِ تُعادُ، ممّا لا شكَّ فيه، فلماذا كلّفتَ نفسَكَ بأن تُعيدَها بمسدّسك إليها؟ العصفور الذي أطلقتهُ من صدركَ نحو بلاد الشّمس التي تستهويكَ كانَ غُراباً ينقُرُ في قلبِ كُلّ الذين أحَبُّوكَ، فأيُّ جُرمٍ تبقّى ولم تقترفه في حقّ نفسك؟

سنابلُ الحياة لم تغلق فاهها يوماً، كانت خضراءَ كُلّ ربيعٍ، وللنّاظر لها أن يعرف كيفَ يستبشر بها الفلّاحونَ خيراً كلّما لاحت إلى أفق النّظر، وكلّما فتحوا أعينهم ورأوها، تروي الحقولُ قصّةَ حياةٍ مُذهلة لو تمعّنا فيها، تحتاجُ قليلاً من الرّعاية، ببذور طال الزّمنُ أو قَصُرَ ستُثمرُ، مع ما يكفيها من الماء لتروي ظمأها، فكثيرُهُ سيّئ، وقليلُهُ أسوأ.. تُقلّبُ التربةُ قبلَ الزّرعِ، ويُصلّي الفلّاحُ مَطلَعَ كلّ زَرعٍ، سائلاً الله أن يرزقه من البَرَكَة ما يحفظ زَرعَهُ ويُخَضّرُ سَنابِلَهُ ويُبعد عن المحصول الحشرات والأعشاب المُضرّة.

أنا، أنتَ، نحن.. البذرةُ. والفلّاحُ أيضاً نحنُ، أنتَ، وأنا.

عزيزي فان غوخ.. 

أيسيلُ في عروقك الدّمُ أم النّار؟ هكذا، تساءلتُ مثلك، باختلاف طفيف، أنتَ جعلتَ بينهما فصلاً، أمّا أنا، فإنّي أجزمُ أنّ عُروقَكَ عروقُ تنّين، وكلماتُكَ نفسها، نارٌ حارقة تحرقُني، كلمةً، بعدَ.. أخرى.

وينقبضُ صدري مَرّةً أخرى كلّما حاولتُ أن أرى الحياةَ بعينيكَ، رماديٌّ أحمر، رمادي أزرق، رمادي أخضر، هكذا تقولُ.. وما أفهمه أنا، كانَ يتمثّل في أنّ حياتَكَ الرّماديّةَ تتجلّى في كلّ الألوان، فهل استطعتَ تمييزَ لون الدّم عندما قطعتَ أذنك أم أنّه هو الآخر، كانَ أحمر رمادياً يا عزيزي؟

تقولُ إنّك اعتدتَ طعم الرّماد المُرّ، لكنّك نيرانٌ محترقة لم تنطفئ، ما دام أنّ اللوحات التي رسمتها جميعها لم تُطفئك، فأخبرني، ما الذي يُمكنه أن يطفئك؟ ربّما، هذا ليسَ إلّا مُؤامرَةً أخرى من صنع عقلك الذي جعلَكَ عجينةً بنكهة الأبيض والأسود الذي نتج عنه بؤبؤ رماديٌّ جعل الحياة تتسرّب وحدها.

عزيزي فينسنت.. 

أتساءل بفضول: هل كانَ طيفُ أورسولا يزورك دائماً منذ أن كنتَ في الثانية عشرة أم أنّه قلّما يأتِيك؟ أغيّرُ الصيغة فأتساءَلُ: هل كان اللّيلكي هو اللون الوحيد الذي لم يختلط بأيّ رماديٍّ ممّا جعلك ترغبُ في أن انفتاح الثّقب الليلكيّ في صدرك؟

لا أعرف كيفَ كانَ حالُ ثيو بعدَ رحيلك، لكنّني متأكّدة أنّه كانَ ليعضّ أصابع النّدم، وكانَ ليستسلم لإغراءات الآنسة "ماذا لو؟"، هل كُنتَ لتستطيع أن تُشعر بكيفَ يمكن لشخص ما أن يلومَ نفسه لأنّه لم يكُن كافياً ليوقف انسحاب شخص يحبّه على الأقلّ؟ كيفَ سيكونُ قد نامَ بعدَ الخَبَرِ؟ كيفَ سيكونُ حالُهُ حقاً؟ لا أدري.

لكنّني أدري، أنّ كلّ الأسباب سرابٌ، وأنّ الحياةَ كما نراها، وليست كما هي.

وأدرك أيضاً أنّ الاستسلام للحزن يوقعُ في فخّ الاكتئاب، وأنّ مجرّد إيمان المرء بأنّ الفرح ينبع من داخله يؤدّي به إلى العيش بنَفَسٍ جديد، وحُبٍّ كبيرَ للحياة.

لم تَكُن الحياة سخيّة معي يا فان، وأنا مثلك، أقاوم بالكتابة.

لكنّني أحبّ نفسي بالقدر الذي لا يسعُني معه أن أقفزَ ذاتَ يومٍ من ارتفاع شاهق أو أشنقَ نفسي في بنايةٍ مهجورة، وأحبّ الآخرين بالقدر الذي يكفيني لأن لا أكونَ نَدبةً في قلب أحد.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حفصاء عمراوي
طالبة وكاتبة مغربية
طالبة فلسفة ومهتمة بمجالات الأمومة والطفل والمجتمع
تحميل المزيد