حين أقع في شِباك كاتب معين، أو يعجبني كتاب ما، يستمر لساني في التحدث عنه كشريط كاسيت يكرر الأغنية بلا توقف.
أُوقف أحد أصدقائي، يمر بجواري مصادفة في الشارع، وأُدخل الكتاب في الموضوع بلا مناسبة، أقطع الحديث في المقهى كرصاصة في فترة هدنة بين جيشين، رصاصة تفاجئ الجالسين ويتردد صوتها بلا توقف، أُصدِّع رأس حبيبتي باقتباسات وتجربتي مع الكاتب، وينفر مني البعض لأنهم لا يهتمون بما أقوله، ويعدّونه سخافة في وقت راحتهم من العمل، فلا يحبذون دوامة الكتب بعد أن خرجوا في استراحة من دوامة أكل العيش، ومع علمي بنفور البعض لا يفارقني إدماني هذا مطلقاً.
لا يهم فئة وطبقة الآخر، مِن المثقف العضوي إلى الشغِّيل اليدوي ليس المهم التصنيف؛ فكلاهما خلف الحصن ينظر إلى حصان طروادة الذي سيخدعه بسؤال ما ليمهد حكايتي وتجربتي مع الكاتب.
أسأل أحد العواجيز القلائل المخلصين لشراء الجرائد والطبعات الحديثة من الكتب الرخيصة، عن حسين البرغوثي، ويُسحَب الدم من يدي حتى تبيضّ حين يجيب بـ"لا". ثم يختفي الأزرق من شريان وجهي ويتبدل لحُمرة حماس فأكلّمه عن الخوف من الجنون، الفضول لمعرفة ما يسكن خلف بوابة فقدان العقل، النبرة المرهفة كالهدوء الذي يتطلبه السير في ركام من الفوضى.
بوضوح أُحدِّثه عن حسين البرغوثي، وعملية الذوبان مع كتابة بلغت "أقصى درجات الحرية"، إن جاز تخصيص وصف الشاعرة "فيسوافا شيمبورسكا" عن الكتابة بشكل عام ليجسد تجربة حسين البرغوثي الفكرية والشعرية الأصيلة.
بالعودة للأزمنة البعيدة، لقد ارتبط إلهام الشاعر في اليونان القديمة بربّات الشعر. ورأى أفلاطون في جمهوريته أن الشاعر لسان الإله. وبالنسبة للعرب أودُّ الاستشهاد بمحاضرة ألقاها البرغوثي في جامعة بيرزيت عام 1995، بعنوان قوانين الشعر العربي: صورة الشاعر ارتبطت بالجنون، مثل قيس بن الملوح الذي اشتهر بمجنون ليلى.
والجنون يعود أصلها لكلمة "جن"، مما يوحي بأن شيئاً خارجياً غير ملموس تلبّس الشاعر. وكذلك يمكن ربط الشاعر بالشعور الداخلي، لكن ليس كما نفهمه حالياً؛ فمن الممكن أنه ارتبط بشيء غيبي، كما رأى الإغريق القدماء، الرغبة والحب والغضب والحلم والحسد.. إلخ، آلهة.
وهذا الصوت الخارجي يتردد صداه على لسان النبي الفارسي في رواية "حدائق النور" لأمين معلوف، "في فجر الكون كانت جميع المخلوقات تسبح في نغم علوي، وقد أنسانا إياه سديم الخلق.
غير أن عوداً مدوزناً (أوتاره مضبوطة) مع روح الفنان قادر على بعث تلك النغمات الأصلية".
إن الصوت الإلهي الذي يسمعه الشاعر، اعتقد قديماً أنه يسكن قلبه وروحه، تلك موهبته الهائمة في الغيب والأسطورة والتي تشتبك مع العقل والمعرفة؛ فالجدل القائم يجعل كلاً منها ينضج وتنكشف معه رؤية أوضح للعالم الخارجي وللتجربة الحسية الذاتية.
يكتب حسين البرغوثي على لسان صديقه "بري" في الضوء الأزرق: "العقل في خدمة السيدة. وما هي السيدة؟ القلب".
من ذلك نفهم أن علاقة الجسد- أو بلغة البرغوثي القلب- جزء من علاقة تبادلية مع العقل مركز المعرفة والإدراك، يكون فيها المنطق في خدمة التجربة الروحية للإنسان، بعمله على تنميتها وإثرائها بتحليل الوجود الخارجي وإضافة نبرة ذاتية خاصة تندمج مع الصوت الإلهي في علاقة مشتركة.
هذا الحوار بين القلب والعقل ليس نسيماً صيفياً ولا سهرة أسفل سماء صافية، بل شتاءات كثيرة تفرض حصاراً على جبهتك، بتعبير شكسبير. وحسين البرغوثي عاش في قلب العاصفة والاهتياج الداخلي، متمرداً على التفسيرات الرديئة للعالم، فلم يكن هناك مألوف، فقط شعور بالغرابة، يأتي من الانفصال بين حاجات الأنا والجانب الخارجي؛ حيث تصبح السماء فوضى والأرض هاوية.
أمام ذلك، تجرأ القرن الثامن عشر وأعلى من الثقافة وإرادة الإنسان، ولكن الأديب أو الفيلسوف أو الشاعر المعاصر لم يعد قادراً على تقديم الإجابات السابقة، بعد أن تخطاها وهدم الإجابات الأخلاقية والنزعة البطولية التي استمرت حتى القرن التاسع عشر، واختفى من يملك الشجاعة للقول بأن "دور الكاتب في المقام الأول هو دور المُعلم"، جملة نيكولاي أليكسيفيتش، لأن المعلم نفسه لم يعد يملك إجابة.
أمام الحياة العقيمة ونفحات الخصوبة القليلة، يغلب الشعور بالسأم نتيجة اللامعنى، وتبدأ نقطة الانطلاق لتحقيق التطابق واندماج الكينونة من الذات أولاً. فالمعركة ليست ضد عدو خارجي وإنما بالكشف عن المجهول داخل الإنسان.
تلك الحالة بحثها حسين البرغوثي في الجدار السابع، ومثلت مشروعه المستقبلي، حيث يصفها بأنها "بداية الانسحاب من العالم الخارجي، أي اعتبار مواضيع الحاجات غير حقيقية. فالرغبة في العثور على الذات ومعرفتها تقود إلى مجموعة هائلة من الرغبات الجديدة نوعياً. الرغبة في الأكل مفهومة طبيعياً… لكن الرغبة في معرفة الذات رغبة مجردة.
إنني لا أعرف ما الذي أريده بالضبط ولا حتى كيف أصل إليه (البحث عن السبب الرئيسي مثلاً يعني أني لا أعرفه بل أبحث عنه)… تتميز الرغبات الجديدة بانعدام مواضيعها الملموسة في العالم الخارجي، إنها رغبات ذاتية تستهدف الحصول على شيء ذاتي ونفسي وغير محدد".
يمكن للرواقي تقديم إجابات عبر نفي الحاجات واعتبارها شرًّا محضاً يجب إبادته. والصوفي سواء آمن بالبراهمانا؛ فيرى العالم الخارجي شقاءً يجب مقاومته وكبحه للوصول إلى حالة النيرفانا أو الكلية والصفاء عن طريق الصيام والتقشف وهجر العالم. أو المهايانا التي ترفض الكلية وتتقبل كُل شقاء العالم بنفيه واعتباره غير موجود على الإطلاق. وأيضاً المتصوفة المسلمون آمنوا بتحقيق الكلية، عبر الاتحاد مع الله، ويتجسد ذلك في شعر أبي منصور الحلاج:
"لي حبيب أزور في الخلوات
حاضر غائب عن اللحظات
ما تراني أصغى إليه بسمع
كي أعي ما يقول من كلمات
كلمات من غير شكل ولا نطق
ولا مثل نغمة الأصوات
فكأني مخاطب كنت إياه
على خاطري بذاتي لذاتي
فهو يحكي عن الاندماج في المحبة وعمق الارتباط الذي يجعل منهما شيئاً واحداً، كُلٌّ لا ينفصل. وفي قول الحلاج أيضاً:
وظاهراً باطناً تبدى
من كل شيء لكل شيء
يا جملة الكل لست غيري
فما اعتذاري إذن إليَّ
حين اتُّهم بالكفر.
وتلك الأفكار ناقشها حسين البرغوثي بشكل مستفيض في كتابه "سقوط الجدار السابع".
لكن في حال الكاتب المعاصر، لم يعد بمقدوره القبول بتلك الإجابات؛ فأمام التمزق وصمت الوجود، نردد مع كيركيغارد: "يغرس الواحد منا أصبعه في التربة فيعرف الأرض التي ينتمي إليها من الرائحة التي يشمها، وأغرس أنا أصبعي في الوجود، فينمُّ عبيره عن اللاشيء، فأين أنا؟ ومن أنا؟ وكيف جئت إلى هنا؟ وما هذا الشيء المسمى بالعالم؟ وكيف وصلت إليه؟ (…) قُذفت إلى جوعه كأنما اشتُريت من خاطف ملعون أو من تاجر أرواح".
هناك فقرة في "الضوء الأزرق" تحكي عن فقير هندي ذهب إلى دير بوذي بحثاً عن إنارة روحه.
بينما يروي للراهب ماضيه وعذابه، وذكرياته، يروي والراهب يصغي ويصبّ الشاي في فنجان على الطاولة. روى حتى سال الشاي على الأرض والراهب لم يرفع يده، والرجل يروي حتى توقَّف ليُنبه الراهب ويسأله لماذا تستمر في الصب! فردَّ الراهب: ذهنك يشبه هذا الفنجان، مليء، أفرغه مما فيه، كي أصب لك شاياً جديداً. ويعلّق "بري" على القصة لحسين: "هذا هو الذهن: فنجانك الذهبي.
من طبيعة الذهن أن يكون فارغاً، ومن طبيعة الفراغ أن يكون قابلاً لأن تصب فيه أي رأي، أو نظرية، أو مذهب، أو معرفة، أو شعور، أو ذكريات. ميِّز بين الذهن ومحتواه كما تميز بين الفنجان والشاي الذي في الفنجان يا رجل".
محاولات تفكيك البؤس الإنساني عبر الفصل بين الجسد والروح باعتبار الجسد معبراً نحو الأبدية، بتعبير بليز باسكال، أو الإرث الديكارتي "أنا أفكر إذن أنا موجود". استمِر باعتبار العقل/الروح موطن التسامي ورمزاً للامتناهي، بينما الجسد وحاجاته مصدر الشرور والرذيلة، لأنه منبع الرغبات والكبت والشهوة التي مصيرها التبدد والفناء عكس المطلق الذي لا يفنى.
تلك الحرب القديمة لتغييب الجسد سقطت أمام الخطاب الإنساني المعاصر والتي وضعته في مركز الوعي واللاوعي وأعادت اعتبار الإنسان كلاً لا ينفصل. فلا فكر بلا جسد، ولا يوجد ذات متعالية فوق الجسد، فهو مركز الأنا والأداة نحو الإنسان الكامل، بمفهوم نيتشه.
لكن الجسد الإنساني ليس حراً ومُطلق القوة كما رأى نيتشه، فهو عرضة لممارسات السلطة والخطاب وأداة تُنتَج اجتماعياً حيث يصبح ليناً يتشكل كالعجين. وبالنسبة لحسين البرغوثي فهو يشترك مع ميشيل فوكو في تلك النظرة باعتبار الجسد والعقل زوجين لا ينفصلان، وليس فقط أن أحدهما موطن الحاجات الحيوية من طعام وتنفس .. إلخ، والآخر متعالٍ يكبح وينظم تلك الحاجات.
إن علاقة الذات الإنسانية لا تظهر وحيدة، بل تتجلى في علاقتها مع الآخر وعلاقتها مع الموضوع وعلاقتها مع ذاتها، حين تصبح الذات في علاقة مع نفسها باعتبارها آخَر يمارس الرقابة والضبط كالعالم الخارجي.
ولا يحرص الإنسان على شيء أكثر من نسيان هذا الصراع، يهرب من لحظة التفكير المفهومي في علاقته بذاته وعلاقته بالوجود. يخضع الغالبية للعقل الاستاتيكي الثابت، مرتاحين في الموانئ الراسية، وحربهم الوحيدة هي الحفاظ على القواعد المسلَّم بها، الأفكار التي صُبت وانتهى الأمر.
وهؤلاء لم يتضمنهم التحليل ولم يأتِ المقال على ذكرهم. أما أصحاب العقل النبوي، كما يسميه حسين البرغوثي، فبجانب كونهم خالقين للأفكار، فهم يستمتعون بالهدم والإفراغ. ولا تسعى في ذلك لتأكيد ذاتها، بل تسير مع صيرورة وتحولات الأنا لتجعل من كل أثر سابق نقطة بداية.
إنها عملية من الصراع لمعرفة الأنا وتجاوزها ونزع الأقنعة التي ترتديها، عملية مستمرة. قد تفشل في تقديم إجابات لكنها لا تنهزم أمام المعاناة، بل تراها بتعبير سيوران "أنشودة الدم واللحم والأعصاب". لا تبقى سجينة للقلق، أو بتعبير سارتر "الغثيان" لكنها تمسك بتعميق معرفتها، وتلوث الواقع بتجربة الجنون؛ فهناك عقل في الجنون، كما يقول شكسبير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.