"متى تنتهي أزمة السكك الحديدية؟"
كان هذا سؤال رئيس وزراء الدولة المصرية مصطفى مدبولي، في مؤتمر صحفي عُقد بعد وقوع حادث "قطاري سوهاج" الذي راح ضحيته 19 مواطناً وقرابة 165 مصاباً، من بينهم حالات خطرة.
وإن كان هذا هو لسان حال رئيس وزراء الدولة المصرية، الذي تقع وزارة النقل- مثل باقي الوزارات- تحت سلطته، فكيف هو لسان حال المواطن؟!
ولم يكتفِ مدبولي بذلك التصريح "العجيب"، فأردف متحدثاً بأن أخطاء العنصر البشري تفاقمت من تهالك المنظومة، بينما يعيد العمال المصريون تعويم السفينة الجانحة في قناة السويس ويعيدون حركة الملاحة بالممر المائي الأهم في المنطقة. تصريحات مدبولي وغيرها من التصريحات "غير المسؤولة" من المسؤولين المصريين في خضم الأزمات التي يعيشها المواطن المصري، تثير أسئلة بسيطة وهامة في ذهن المواطن والمراقب السياسي على حد سواء.
السؤال الأول، هل الدولة المصرية ذات كفاءة وقوية بما يكفي للعبور من كل الأزمات الداخلية والخارجية التي تمر بها البلاد أم أنه لا حول لها ولا قوة؟
ثانياً، إن لم تكن الدولة المصرية قوية، فكيف ومتى تكون قوية؟
قوة الدولة
للإجابة عن هذه الأسئلة، يساعدنا عالم الاجتماع دومينيك لينهارت. يقول لينهارت إن الدولة ليست مجرد فكرة أو كيان ثابت، إنما الدولة نتيجة اختبارات وتحديات تواجهها من أجل إثبات وجودها. وفي تحليل لينهارت، نرى أن الاختبارات ليست امتحانات براغماتية معدة مسبقاً، بل عبارة عن تسلسل من الأحداث يشبه التجارب المعملية، لكن الفرق أن المعمل هو الواقع التاريخي.
بمنطق لينهارت، قوة الدولة وحضورها وفاعليتها تتشكل على أساس هذا الاختبار التاريخي. أي إن أداء الدولة وكفاءتها في مواجهة التحديات والمرور من العراقيل وتجاوز الأزمات بنجاعة وفاعلية هي المقاييس التي تحدد ما إذا كانت دولة ما قوية بالفعل أم لا.
على سبيل المثال، عند بدء انتشار فيروس كورونا في العالم، برزت الدول حول العالم ككيان قوي ومتماسك وفعال، ففُرض حظر التجوال وطُبقت التدابير الاحترازية، واستعدت المستشفيات، وضُخت حزم المساعدات الاقتصادية في الدول القوية بالفعل كما نيوزلندا. أما الدولة المصرية، فظهرت باهتة، مترهلة، غير قادرة على التعامل مع الأزمة بشفافية وحزم. وللأمانة، لم يكن من المتوقع أن يكون تعامل الدولة المصرية أفضل من هذا، بعد عقود من الترهل البيروقراطي في دولة يعيش فيها أكثر من ثلثي شعبها تحت خط الفقر.
هذا التباين في تعامل الدول مع الاختبارات والتحديات المختلفة، يمكن أن يساعدنا في تقديم إجابة أكثر موضوعية وبسيطة عن السؤال المطروح عن مدى قوة الدولة المصرية.
ببساطة، تبرز الدولة المصرية وتوجد بقوة عند الاختبارات الأمنية والسياسية، وهذا لتركيبة الدولة البوليسية، فيما تظهر كشبح في ملفات التنمية والتطوير المجتمعي مثل التعليم والصحة. وهذا يرجع لخبرة الدولة الأمنية وعقليتها البوليسية التي تقوم على القمع.
لكن لماذا تكونت عقلية الدولة المصرية على هذا النحو ولماذا لم تتغير؟
يمكننا العثور على إجابة هذه المعضلة في حقبة الاستعمار، حيث بدأت العقلية الأمنية والسلوك القمعي للأنظمة الحاكمة لمصر في التشكل والنمو، مُحاكِية النظام الاستعماري. وهذا ما عبّر عنه عالم الاجتماع البيروي آنيبال كيخانو بمصطلح "كولونيالية السلطة"، يرى كيخانو أن الاستعمار لا ينتهي بنهاية الوجود العسكري للمستعمر في البلاد، وإنما بنهايته على المستوى الفكري كذلك. وهذا الذي لم يحدث إلى الآن في مصر. فعلى الرغم من قيام ثورة 1952 وإنهاء الاستعمار وما تلاها من إصلاحات جمال عبدالناصر ومن ثم "انفتاح السادات"، لم يتغير الواقع السياسي والاقتصادي والقانوني لمصر عن حقبة الاستعمار. حيث ظلت آليات القمع الحكومي وجميع المؤسسات والدواوين تعمل بنفس نمط الدولة الاستعمارية التي تحاول تأميم المجال العام لصالحها وتقمع أي حركة مقاومة لسلطتها مقابل بعض الحقوق الاقتصادية للمواطن والتي سريعاً ما تبخرت مع الفشل الاقتصادي.
الفشل المتكرر على المستوى الاجتماعي-الاقتصادي والقبضة الأمنية القوية، يوضحان لماذا تظهر الدولة المصرية حاسمة وفعالة عند اتخاذها إجراءات قمعية أو وحشية، كان المثال الأبرز عليها مجزرة فض اعتصام "رابعة العدوية" بحزم لا نظير له. بينما تظهر خجولة مستحية من أدائها الهزيل في تطوير المجتمع وتلبية احتياجات المواطنين.
وما زالت إلى الآن الأنظمة المتعاقبة على حكم مصر تنظر إلى المواطن والشارع السياسي بأنهم مجالات يجب أن تبقى تحت السيطرة، وكلما نجحت الأجهزة الأمنية في إحكام قبضتها اعتبر النظام نفسه ناجحاً، لأنه يقلل من فرص إزالته، وهذا تصور استعماري صبغت به هذه الأنظمة نفسها بينما تحاكي المستعمر. وهذا بدوره ينعكس على سياسات وفكر هذه الأنظمة من حيث رؤيتها لشكل وأولويات الدولة وتفاعلاتها مع المجتمع.
قوية أمنياً، ضعيفة اقتصادياً
بالعودة إلى لينهارت، سنجد أن مصر دولة قوية وحاضرة بفعالية على المستويين الأمني والعسكري، تشكلت بفضل خبرتها في التعامل مع الاختبارات الأمنية كالغضب والانتفاضات والهبات الشعبية، بينما تقف عاجزة عن إيجاد حلول لمشاكل مزمنة كحوادث القطارات والبطالة ومعدلات الفقر، فضلاً عن المشاكل الصحية. والسبب في هذا الفشل أنَّ حل تلك المشكلات وتجاوز تلك الاختبارات ليسا في سُلم أولويات الدولة المصرية، وتختصر جهودها في البحث عن مبررات ومسكّنات لتجاوز الحدث سريعاً دون كثير من الصخب المجتمعي. لذلك يؤكد كيخانو ضرورة التحرر من الفكر الاستعماري، وهذا بدوره سوف يساعد الدولة على الوجود بقوة ككيان متصل وحيوي قادر على حل الأزمات اليومية للمواطن بعدما ارتقت في سُلم الأولويات. ويمر هذا عن طريق توجه القائمين على الدولة إلى الخطو بجدية في مسار التحول الديمقراطي، لتستفيد وتفيد العنصر الأساسي لها وهو الإنسان.
أخيراً، إن نجاح العمال المصريين في إعادة تعويم السفينة الجانحة وإعادة حركة الملاحة في قناة السويس خلال يومين بدلاً من أسبوعين كما توقع بعض الخبراء، يؤكد أنه لا يمكن أن تتحول مصر إلى دولة قوية دون إسهامات ومشاركة المواطنين بفاعلية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.