إليكِ صغيرتي: لن تقطع الهزائم من روحك قطعاً

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/01 الساعة 09:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/01 الساعة 09:17 بتوقيت غرينتش
إليكِ صغيرتي: لن تقطع الهزائم من روحك قطعاً - ugurgallen

إليكِ صغيرتي تحية طيبة، وبعد:

تمر سنة وراء سنة، ويصير عمري أكبر، وأظل أرتحل من مكان لآخر، ورغماً عني ابتعدت عنكِ وافترقنا، ولكنكِ تظلين هنا بقلبي ولا أنساكِ، أعلم أنكِ لا زلت تنتظرينني أمام سور المدرسة لأمسككِ بيدكِ ونعود معاً إلى بيتنا، أستفهمينني إذا أخبرتك أنه لم يعد في استطاعتي أن أعود إلى البيت معكِ؟ رغماً عني لم يعد بيتي، ولم أعد أنتمي إليه بعد الآن، أعلم أننا لم نختر أن نتركه، بل اقتُلعنا منه اقتلاعاً، وأعلم أنك تسألين لِمَ لمْ آخذكِ معي عندما اضطررت أن أرحل، ولا أدري إذا كنتِ ستسامحينني أم لا.  

أتذكرين الكلمات التي كانت أول عهدنا بصوت فيروز؟ "طيري يا طيارة طيري" تلك الكلمات التي استمعنا لها سوياً بدار جدتي، حينها لم نفهم سوى هذه الجملة الصغيرة، وظلت باقي الكلمات بالنسبة لنا لغزاً، أذكر يومها عندما سألت جدتي صوت مَن هذا الذي يغني؟ فقالت لكِ "فيروز"، ومن ثم بقينا إلى جانب التلفاز نستمع إلى باقي الكلمات علنا نفهمها أكثر، أذكر حينها رغبتكِ في أن نصنع طائرة ورقية ملونة لنطيرها من فوق سطح الجيران ونظل نركض خلفها، دعيني أقل لكِ إني الآن فهمت لِمَ كانت تقول فيروز إنه "بعده بكير تنكبر، شو صاير؟" ولِمَ كانت تريد أن ترجع بنتاً صغيرة عسطح الجيران، أعلم أن الكلمات لا تزال صعبة عليك، وأتمنى أن تبقى كذلك وألا تكبري وألا تفهميها أبداً. 

حتى الآن لم أتعلم ركوب الدراجة، ولم أمتطِ خيلاً منذ كنا معاً، ولم أملك الوقت الكافي لتعلم كل اللغات التي أردتِ أن أتعلمها، ولم أدرس الطب مثلما تمنيت، ولم أسافر خارج البلاد، ولم أصبح أجمل الفتيات، ولا أكثرهن مهارة، ولم أتجاوز خوفي غير المبرر من القطط، ولم يصبح لي ذكرى في كل بلد، ولكني تعلمت حياكة الصوف وصنعت لأمي شالاً، وتعلمت خبز الفطائر والكعك بمفردي، ولا أزال أسبح ولا يزال البحر صديقي المقرب، كما اشتريت لكِ العطر الذي كنت تقفين أمامه بإعجاب كل مرة تجدينه فيها، وأخذتكِ معي -ولو مجازاً- إلى كل الأماكن البعيدة التي كنت تتخيلين شكلها ولم تسنح لكِ فرصة زيارتها، صرت أقول للبكاء "لا"، ولم أعد أخاف أن أسير في الشارع وحدي، أصبحت أتحمل ثقل الأيام على قلبي وأصر على أن أعبر خلال اليوم ولو لم تحملني أقدامي على الاستمرار، صارت ملامح وجهي أكبر وبالرغم من ذلك فأنا أحبها، صارت يدي قادرة على احتواء هشاشة قلبي، وأصبحت أكثر شجاعة في تقبل الخسارة بالرغم من تكرارها، أظل أستيقظ كل يوم لأستقبل الشمس ولأحاول من جديد، أتذكرين عندما كنا نُعاقب في المدرسة لعدم مطابقة مواضيع التعبير التي كنا نكتبها لأفكار الأستاذ؟ صرت الآن أكتب يا صغيرتي؛ أكتب عن كل شيء يخطر ببالي ويمر بقلبي، أكتب الخواطر والمقالات والقصص الصغيرة، وسأظل أكتب حتى آخر يوم ولو لم يقرأ رسائلي أحد، أتشعرين بخيبة أمل مثلي يا صغيرة؟ أتشعرين أني لا زلت بعيدة عن كل ما حلمنا به سوياً؟ آمل أن تقولي"لا"، ربما حينها أشعر ببعض من الرضا.

أتحسبين أني لا أحتاجكِ؟ أتظنين أني لا أشتاق إليكِ؟ دوماً ما أراكِ أمامي وحقيبة المدرسة فوق ظهركِ، أشاور لكِ فتأتيني ركضاً، أمسككِ من يدكِ وأعود بكِ إلى بيت جدتي، نجلس سوياً على مقعد جدي، ونسند رأسنا إلى الجدار تحت المكتبة المعلقة، ونظل نستمع لفيروز وهي تردد "علّي فوق سطوح بعاد ع النسمة الخجولة، أخدوني معهم الولاد وردّوا لي الطفولة، ضحكات الصبيان وغناني زمان، ردّتلي كتبي ومدرستي والعمر اللي كان" تظل يدكِ بيدي، وتبقي ابتسامتكِ بفيكِ حتى تتلاشى صورتكِ من أمامي، وأدرك أني لا أزال وحدي هنا دونكِ. 

لا تزالي تسألين لم تركتكِ ولم آخذكِ معي، أليس كذلك؟ عليكِ أن تفهمي أن الإنسان في العموم مغلوب على أمره، فعندما يُجبر على الخروج من فصل من فصول حياته، يضطر أن يترك واقعه ليصير ذكرى، وتباعاً يضطر أن يترك جزءاً من نفسه هناك بذاك الفصل الذي يصير بفعل الوقت منسياً، وقتها فقط يدرك أن جزءاً من طفولته قد اقتُطع، وأن جزءاً منه قد ارتحل، وبعدها لا يظل طفلاً مثلما كان، فلكل أحد منا لحظة سلبت منه معنى الطفولة، أفهمتِ لم لا زلت تنتظرينني عند سور المدرسة؟ ولِمَ لمْ أعد حتى الآن لأصطحبكِ؟

أنتِ هناك حيث تركتكِ بأمان؛ على الأقل لن تتغيري، ولن تشوهك الخيبات المتتالية، ولن تقطع الهزائم من روحك قطعاً، هناك ستبقين مثلما عرفتكِ وأحببتكِ، أكتب لكِ هذا المرسال الآن بعد سنين فرقة طويلة لتعلمي أني لم أتخلّ عنك، ولم أنسكِ، وربما عندما تتفهمين أسبابي، تُقدمين على مسامحتي، أعدكِ أن أعود يوماً ما، لآخذكِ من يدكِ وأعيدكِ إلى البيت، يومها لن أستطيع أن أصعد معكِ للأعلى، سأنتظركِ بالأسفل حتى تصعدي وتلوحي لي من الشرفة كي أطمئن أنكِ وصلتِ، ومن ثم سأرتحل مرة أخرى إلى طريقي، أنتِ أنا، وأنا أنتِ، وستبقين بقلبي جزئي المفضل من طفولتي، وستظل لحظاتنا معاً ترد لي كتبي ومدرستي والعمر اللي كان، إليكِ صغيرتي سلام طيب ووردة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
ساندي ياسر
كاتبة مصرية
اسمي ساندي ياسر عبدالمنعم، وعمري 22 عاماً، أنهيت دراستي بكلية الألسن في جامعة عين شمس بالقاهرة العام الماضي، حيث درست اللغتين الألمانية والإنجليزية، شاركت من قبل بمقالات مختلفة في ثلاثة كتب ورقية في معرض الكتاب بالقاهرة؛ اثنان لدار إنسان، والآخر لدار كتبنا، وشاركت بعدة مقالات في مدونات HuffPost مسبقاً، وبمقالات أخرى في جريدة «اليوم الجديد»، وفي أثناء دراستي شاركت في عدة مسابقات أدبية في قسم اللغة العربية بالكلية، وحصلت في المرة الأولى على المركز الأول في المقال، والأخرى في القصة القصيرة. وحالياً أعمل في قسم الموارد البشرية بإحدى شركات التوظيف العالمية.
تحميل المزيد