حظي الاجتماع الذي جرى في ولاية ألاسكا، بين قادة السياسة الخارجية في الصين والولايات المتحدة، ممثلاً بوزير الخارجية الأمريكي الجديد توني بلينكين، ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان من الجانب الأمريكي، وعضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني، ووزير الخارجية السابق يانغ جيه تشي، ووزير الخارجية الصيني وانغ يي من الجانب الصيني، حظي باهتمام المراقبين للسياسة الخارجية في البلدين الكبيرين. ومن أسباب زيادة الاهتمام بالاجتماع التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي الجديد "نسبياً" جو بايدن، حول سياسات إدارته الخارجية المتعلقة بالصين، والتي اعتبرها كثيرون عودة إلى استراتيجية "العودة إلى آسيا"، التي أعلنها الرئيس الأسبق باراك أوباما قبل اثني عشر عاماً، وبوتيرة أشد من إدارة أوباما.
لكن الذي أدهش المراقبين كان اللغة القوية من الطرفين خلال الاجتماع، وإصرار الجانب الأمريكي على حضور الصحفيين للاجتماع لفترة تزيد عن الساعة ونصف الساعة، على عكس ما جرت عليه العادة. والحوار الذي نقلته وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، واحتوى على انتقادات حادة تشبه التلاسن، يشير إلى حنكة في التفاوض، عن طريق رفع سقف المطالب بين البلدين اللذيْن يشكلان معاً ما يقارب نصف حجم الاقتصاد العالمي.
وبالنظر إلى حجم التعاملات الكبيرة بين البلدين، والتقاطعات السياسية والعسكرية في عدد من القضايا، تنتظر المراقبين سنوات من التوتر بين القوتين العظميين. وخاصة مع تبني الصين في عهد الرئيس الحالي لسياسة مصادمة تختلف عن سياسة الهدنة وإخفاء القدرات التي تميزت بها الصين خلال 40 عاماً خلت، والتي كان عرّابها الرئيس الأسبق دنغ شياو بينغ.
أردتُ في هذا المقال الحديث عن الأمر من زاوية الجهات والشخصيات التي يقع على عاتقها تطبيق السياسات الخارجية في الصين. فلطالما كانت وزارة الخارجية الصينية هي الواجهة الرسمية للدولة الصينية والحزب الشيوعي الحاكم، وكان العاملون في هذه الوزارة الحيوية دائمي التكيف مع التغيرات في السياسة الخارجية الصينية، ابتداءً من مرحلة "دبلوماسية التعايش السلمي" بين عامي 1949 و1979، ثم مرحلة "دبلوماسية التنمية السلمية" التي استمرت من العام 1979 حتى العام 2013.
وبينما كان التنين الصيني يتحدث عن نظرية "الخصائص الدبلوماسية الصينية"، التي اعتمدها الحزب الشيوعي في العام 2013 كمحدد لعلاقات بلاده الخارجية، والتي تشمل "دبلوماسية السلام والوئام"، و"الدبلوماسية الشاملة والمنفتحة"، و"دبلوماسية الاستقلال والديمقراطية"، كان هدف قادة الدبلوماسية الصينية إدماج الدبلوماسيين المحترفين في خطة قيادة الحزب الشيوعي الصيني لإدارة البلاد داخلياً وعلى مستوى السياسة الخارجية.
خلال الفترة الأولى من عمر الصين الشعبية (1949–1978)، كانت إحدى مهام الدبلوماسية الصينية الأساسية نزع اعتراف دول العالم بالصين الشعبية في مقابل الصين الوطنية في تايوان. وهو أمر تحقق في مطلع السبعينيات، بعد جهود مكثفة للدبلوماسية الصينية مع الدول النامية والكبرى، وخدمتها فيه عوامل أخرى مثل الدعم اللوجستي العسكري الصيني لثوار فيتنام، والعلاقة السيئة مع الاتحاد السوفييتي. وقد أدّى الاعتراف بالصين الشعبية عضواً دائماً في مجلس الأمن بديلاً لتايوان، وإقامة علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة، وسياسة دنغ شياو بينغ الجديدة المعتمدة على الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على الغرب، إلى تغيير في دور الدبلوماسية الصينية لتعمل على تعزيز التواصل الصيني اقتصادياً مع دول العالم. وفتح أبواب الصين للاستثمار، وفتح أبواب الدول النامية أمام الاستثمار الصيني، كما سنرى لاحقاً في أواخر التسعينيات وحتى الآن.
تغيرت أولويات الدبلوماسية الصينية في فترة الثمانينيات والتسعينيات إلى نزع اعتراف العالم بتبعية هونغ كونغ وماكاو وتايوان للصين، وهي أهداف تحققت بالنسبة لهونغ كونغ وماكاو، اللتين أعادتهما الصين من المملكة المتحدة والبرتغال إلى سيادتها، بينما ما زالت تايوان تقاوم محاولات الصين لنزع الاعتراف بها. وتسعى الصين خلال العقدين الماضيين إلى تشجيع الدول التي لها علاقات دبلوماسية مع تايوان في إفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى قطع هذه العلاقات. وكان من أهداف الدبلوماسية الصينية أيضاً نقل التكنولوجيا العسكرية والمدنية والاستثمارات إلى الصين، بجانب فتح أبواب دول العالم النامي أمام الشركات الصينية للاستثمار واستيراد المواد الخام.
الملاحظ أن الدبلوماسية الصينية خلال الفترة من 1978 وحتى السنوات الأولى من حكم الرئيس الحالي شي جين بينغ كانت متمسكة بسياسة "عدم التدخل وإخفاء القدرات"، الأمر الذي كان جيداً للصين من ناحية التركيز على التطور الاقتصادي، لكنه لم يكن جيداً من ناحية إكساب البلاد سمعة جيدة كقوة عظمى. فالكثير من الدول "المغضوب عليها" لم تكن تعتمد على الصين كثيراً لمساعدتها في مقاومة الصلف الغربي في مجلس الأمن والمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة. وكانت الدول التي تشعر بالضغوط السياسية في مجلس الأمن تلجأ لموسكو لاستخدام حق الفيتو ضد القرارات الأمريكية أو البريطانية أو الفرنسية ضدها، بسبب إحجام الدبلوماسية الصينية عن الصدام في مجلس الأمن.
شاغل آخر من شواغل الدبلوماسية الصينية كان يتعلق بالمشاكل الحدودية بينها وبين جيرانها، مثل المشاكل الحدودية مع الهند، والحدود البحرية مع اليابان وفيتنام والفلبين وغيرها. وبينما طرح الرئيس الأسبق دنغ شياو بينغ مبادرة خاصة بحل نزاعات الأراضي مع الدول المجاورة، انطلاقاً من الوضع الاستراتيجي الشامل للصين، جاء فيها: "نتمسك بالسيادة بشدة ونترك النزاعات جانباً، ونبحث عن التنمية المشتركة"، فإن لهجة القيادة الصينية والدبلوماسية الصينية الآن تختلف اختلافاً كاملاً عن الماضي، حيث يرافق اللهجة الخشنة التي تطالب بالسيادة الصينية في بحر الصين الجنوبي للدبلوماسية الصينية تحركات عسكرية للسفن الحربية، واحتكاكات متكررة مع القطع البحرية للدول المجاورة، وتلك التابعة للولايات المتحدة. والاحتكاكات الحدودية بين الصين والهند العام الماضي، والتي نتج عنها قتلى من الجانبين، وتصعيد دبلوماسي في لهجة البلدين، مثال آخر على التغيير في دبلوماسية الصين الحدودية.
العلاقات مع الغرب عموماً، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، تحتل جانباً كبيراً من اهتمام الدبلوماسية الصينية. وللتدليل على ذلك يكفي الإشارة إلى أن وزراء خارجية الصين خلال الثلاثة عقود الماضية كانوا في غالبيتهم سفراء في واشنطن أو مندوبين دائمين في نيويورك.
ويتم اختيار أكثر الدبلوماسيين الصينيين كفاءة وثقة للعمل في الولايات المتحدة، يليهم أولئك الذين يعملون في العواصم الأوروبية الكبرى. بينما يذهب الدبلوماسيون الأقل كفاءة إلى دول العالم النامي في جنوب الكرة الأرضية. كما أن العلاقات مع الولايات المتحدة كانت دوماً هي "كلمة السر" في العلاقات الدولية للصين في مناطق كثيرة من العالم. وقد عبّر عن هذا الأمر ذات مرة سفير دولة أوروبية كبيرة في الصين بالقول متذمراً "نشعر أن اهتمامهم بالولايات المتحدة يطغى على كل شيء آخر في محادثاتنا معهم". وقد يكون هذا الأمر راجعاً إلى أن الدولة الوحيدة التي تمثل تهديداً اقتصادياً وعسكرياً للصين هي الولايات المتحدة.
التغيير الذي يحدث على مستوى اللهجة وتعامل سفراء الصين في الخارج مع الانتقادات التي توجّه إلى الصين في الفترة الأخيرة يشير إلى تغيير كبير في مستوى العمل الدبلوماسي في الخارجية الصينية. فتغريدات السفراء الصينيين في أوروبا المنتقدة لتعامل دول أوروبية مع أزمة كورونا مثلاً، أو ردّ بعضهم على الانتقادات حول هونغ كونغ، كلها أمثلة تشير إلى تعليمات صادرة بممارسة دبلوماسية الصدام وإبراز القوة بدلاً من الدبلوماسية الناعمة التي كانت تتميز بها الصين سابقاً.
ويبدو أن العالم موعود بجيل الدبلوماسيين الشباب أيضاً في الصين، سيحاولون إظهار القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية لبلادهم، وأهم من ذلك "الكبرياء الوطني" للصين. وهو أمر يحاول الدبلوماسيون الصينيون إظهاره دائماً عند انتقادهم، مذكّرين أقرانهم في الغرب بأن عهد "قرن الذلّ" قد ذهب بلا رجعة. مصطلح "قرن الذلّ" مصطلح صيني يشير إلى الفترة من 1840 وحتى 1949، والتي تم خلالها احتلال أجزاء من الصين بواسطة اليابان والدول الغربية.
نعود إلى الاجتماع الأمريكي- الصيني الذي عُقد في ألاسكا الأسبوع الماضي، الذي كشّرت فيه الدبلوماسية الصينية عن أنيابها بعبارات قديمة، لكن طريقة قولها جديدة. فالصين كانت تعترض دوماً على اللهجة الأمريكية المتغطرسة، والتدخل الأمريكي في شؤونها الداخلية. ووزارة الخارجية الصينية كانت تُعد تقريراً سنوياً عن الانتهاكات الأمريكية لحقوق الإنسان، تقوم بعرضه بعد إصدار الخارجية الأمريكية تقريرَها السنوي عن حالة حقوق الإنسان في كافة دول العالم، من ضمنها الصين. لكن الهجوم الصيني الاستباقي خلال اجتماع الطرفين في ألاسكا، ولهجة مستشار الدولة يانغ جيتشي ووزير خارجيته يدلّان على أن الصين تستعد جيداً للحرب الباردة المتوقعة بين البلدين. كما يوضّح أيضاً أن سياسة "الذئب المحارب" التي تمارسها حكومة شي جينبينغ داخلياً، انتقلت إلى الخارج أيضاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.