وصل ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي انعقد في جنيف، يوم الخامس من فبراير/شباط الماضي، إلى تسمية سلطة تنفيذية جديدة مكونةََ من مجلس رئاسي برئاسة محمد المنفي، وعضوية كل من موسى الكوني وعبدالله اللافي، وحكومة لدولة ليبيا يترأس وزراءها عبدالحميد الدبيبة، الذي سئل –بالتعني– في ملتقى الحوار حول رؤيته وبرنامج عمله الخاص بملف المصالحة وجبر الضرر وتعويضات النازحين والمهجرين وتحديداََ اليهود الليبيين أو من يرثهم.
نالت حكومة الدبيبة الثقة من البرلمان الليبي برئاسة عقيلة صالح في سرت بعد مخاض عسير. مخاض بدأ بعرض الحكومة التي تغيرت تشكيلتها حسب رؤية البرلمانيين، وخاصة وزارة الخارجية التي أرادها الدبيبة وزارة نسائية وحصة لإقليم برقة، رغم أنها كانت في الأغلب طرابلسية الهوى. واقترح الدبيبة في البداية اسم "لمياء بوسدرة" من بنغازي، لكن مقترحه لقي معارضة شديدة من برلمانيين وليبراليين، لاتهامها بأنها عضو حزب الوطن الإسلامي ومقربة من عبدالحكيم بلحاج والجماعة الليبية المقاتلة كما تيار المفتي الصادق الغرياني. على إثر تلك المعارضة استبدلها الدبيبة بالدكتورة "نجلاء المنقوش"، الحاصلة على شهاداتها العليا من الولايات المتحدة والمقيمة بها أحياناً كثيرة. المنقوش مرت من كل المطبات التي عرقلت بوسدرة، وأصبحت تلبي أغلب المعايير التي تجعل البرلمان يوافق عليها، وأهمها أنها مقربة من "العم سام" مرعب الجميع.
ليبيا وإسرائيل
علاقة الأديان أقدم وأعرق من علاقات الدول. فاليهود الليبيون سكنوا أرض ليبيا قبل أن تكون دولة إسرائيل وقبل استقلال ليبيا، لكن نظراً لأن جل الليبيين تقريباً كانوا على دين الإسلام، بدا اندماج اليهود في المجتمع الليبي أمراً صعباً، مع احتفاظهم بمهنهم المفضلة، وهي امتلاك وإدارة الحانات والصرافة، وبعض مجالات التجارة. وبعد قيام دولة إسرائيل ووقوع نكبة 1948 على الأراضي الفلسطينية ووقوع المجازر والقتل والتهجير انتمى وتعاطف الليبيون كعرب ومسلمين مع الفلسطينيين، بينما انتمى اليهود إلى الإسرائيليين.
وبعد أن استولى الجيش المصري بقيادة نجيب وناصر وعامر على حكم مصر في 1952، وحدث الاستقطاب بين العلمانية والتعددية والمد الناصري القومي الاشتراكي، مجدداً وجد اليهود المصريون أنفسهم خارج المجتمع المصري، خاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، واتهام يهود بتفجيرات القاهرة، ما أدى إلى هجرة اليهود من مصر وما تبعه من هجرة من ليبيا، إلى حدوث النكسة عام 1967، واحتلال إسرائيل لسيناء والجولان، ومقتل وأسر آلاف الجنود المصريين والسوريين والعرب.
انقلاب القذافي في ليبيا عام 1969 كان القشة التي قسمت ظهر البعير، فتَوجُّه القذافي القومي الناصري المعادي لإسرائيل أسس استقطاباً بارداً لم يبدأ بتدريب الفدائيين الفلسطينيين، ولم ينتهِ بالمشاركة في حرب لبنان الأهلية. إضافة إلى حادثة إسقاط إسرائيل للطائرة المدنية الليبية فوق صحراء سيناء عام 1973 ، التي أزّمت العلاقات بشكل أكبر، حتى إن القذافي قطع العلاقات مع الجارة مصر لمجرد تطبيعها العلاقات مع إسرائيل بعد معاهدة كامب ديفيد.
اعتبار إسرائيل عدواً تاريخياً وأبدياً كان ولا يزال حاضراً في ليبيا. فإبان ثورة السابع عشر من فبراير/شباط، حاول القذافي جمع لفيف من الليبيين حوله بادعاء أن الثوار يسعون للتطبيع مع إسرائيل، وأن بذرة الثورات يهودية. وادعى أن عراب الثورة هو الكاتب الفرنسي الصهيوني "برنارد ليفي". وعلى ذات المنوال استعان الثوار بادعاء أن القذافي من نسل يهودي بعد بروباغاندا أثارتها عجوز في إيطاليا، ادعت أنها خالته في آخر خمس سنوات من حكم العقيد.
مؤشرات التطبيع
بالإمكان سرد مجموعة من النقاط التي يمكن أن تثير بعض الشكوك حيال احتمالية فتح هذا الملف من قبل خارجية الوحدة الوطنية.
أولاً: تظهر السيدة وزيرة الخارجية في ثوب ثقافي لا يعكس صورة المجتمع الليبي المحافظ، بل إنها أقرب لصورة المجتمع الأمريكي الذي عاشت فيه الوزيرة قرابة العشر سنوات الأخيرة، ناهيك عن آلية اختيارها الغامضة وخلفيتها الدبلوماسية المغمورة في حقل ألغام الخارجية الليبي.
وبالنظر للوزارات السيادية مثل الدفاع والداخلية والمالية والخارجية والتعليم، فإننا نجد أنه باستثناء وزارة الخارجية والدفاع، حيث آلت الأولى للمنقوش والأخرى كان قد احتفظ بها الدبيبة، فإننا نجد أن أغلب الوزراء لباقي الوزارات السيادية قد أتوا من نفس المدرسة كالعميد خالد مازن للداخلية، ودكتور محمد المقريف للتعليم، وخالد المبروك عبدالله للمالية، بينما لم تسرِ ذات الشروط على الخارجية.
ثانياً: اقتحام الحكومة -بالرغم من أنها حكومة مؤقتة- ملفات عدة شائكة ومتأصلة، منها ملف رفع الدعم على المحروقات وبميزانية ضخمة تقدر بقرابة المئة مليار دينار ليبي. بينما تسير ببطء نسبي في الملفات الثلاثة الرئيسية، وهي ملف الكهرباء وأزمة كورونا والتحضير للانتخابات، لذا فمن المحتمل أن تثار مسألة التطبيع مع إسرائيل من وجهة نظر الخارجية المغمورة، دون أي تحفظات ودون إدراك للعواقب.
ثالثاً: ارتفاع موجة التطبيع العربي مؤخراً، الذي بدأته الإمارات والبحرين ثم السودان والمغرب، إضافة لأحاديث متناثرة عن اقتراب السعودية من الانضمام للقافلة أيضاً، وليبيا قد لا تكون استثناء. والمجلس السيادي السوداني "غير مخوّل" بالتعاطي مع مثل تلك الملفات الحساسة، لكنه فجر القنبلة. وبالنظر إلى أن أغلب الدول اللاعبة في الملف الليبي تتمتع بعلاقات جيدة مع إسرائيل فمن الممكن الضغط على الحكومة لإنجاز هذا الملف وتحقيق تقدم جديد في العلاقات مع إسرائيل.
رابعاً: ازدياد ملحوظ في حركة نشطاء مدنيين يتغزلون بإسرائيل أرضاً وشعباً وديانة وحكومة، فيما هو أشبه بفقاعات اختبار مجتمعية. كما تعقد حلقات نقاش وندوات عبر تطبيقات كلوب هاوس وزووم، حول الديمقراطية في إسرائيل وكيفية الاستفادة منها في ليبيا، ودعم غير محدود للأقليات اليهودية وإن كان هذا الأمر يختلف عن التطبيع مع دولة. هذا النشاط المدني سبق أن حدث في ذات الدول التي طبعت، ولهذا فإن الأمر مثار شبهة.
ماذا سيقدم التطبيع مع إسرائيل -إن حدث- لليبيين؟
يعيش كثير من الليبيين وهم يعتقدون أن كل مصائبهم بسبب إسرائيل، وأن الأخيرة تتحكم في العالم بكل بساطة ودون منافسة. وأنه لكي تصل ليبيا لبر الأمان وتشكل دولة حديثة عليها التطبيع مع إسرائيل، والتوجه إلى العلمانية المطلقة دون قيود، وأن تخلع هويتها مهما كانت.
لكن، هل تعيش كل الدول التي طبعت مع إسرائيل الرخاء؟ ماذا عن مصر والأردن؟ وماذا بخصوص السودان الذي يحصل على مساعدات غذائية من إسرائيل وقت مجاعة، لكن بعدها انفتحت عليه جميع طوام الدنيا بمناوشات عسكرية على الحدود مع إثيوبيا وسد النهضة الذي سيؤثر على قدرات السودان الزراعية؟ ماذا عن الحرب الأهلية التي تعصف بجنوب السودان الذي كانت إسرائيل أول الدول المرحبة باستقلاله.
ماذا عن أزمات الديون السودانية والمصرية والأردنية وحالة الإرهاق الاقتصادي والارتهان للبنك الدولي مقابل اللاتنمية؟
في الحقيقة إنه لا حدود برية أو بحرية تجمع ليبيا بإسرائيل. ولا تاريخ ولا عرق ولا دين ولا حضارة، وحق المواطنة مكفول لليهود الليبيين، مثلهم مثل أهل كل الديانات. فلماذا هذا التوجه حتى على مستوى المواطنين، ولماذا لا نتحدث عن مهجرين إيطاليين كاثوليك ونتحدث فقط عن اليهود، رغم تمتعهم بجنسيات أخرى، لماذا على إسرائيل أن تأخذ كل شيء وعلى العرب أن يقدموا فروض الطاعة والولاء.
خرافة الديمقراطية الإسرائيلية
أي ديمقراطية تلك التي هي في إسرائيل مع شعب يقسم بدرجات حسب العرق، أي ديمقراطية تلك التي تصدر نتنياهو كرئيس وزراء لأكثر من 15 عاماً على فترات، أي مواثيق ومعاهدات تلك تجعل بيغن يوقع على كامب ديفيد باليد اليمني، لتضم يده اليسرى القدس مباشرة، رغم أن الاتفاق على غير هذا.
حقيقية الأمر أن الوهم الذي يحدو الكثير بخصوص تصفير المشاكل لن يبدأ بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بل بتطبيع العلاقات مع الشعوب صاحبة الحق والفضل على الحكومات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.