لو أن أهمية أم كلثوم اقتصرت على كونها أعظم مطربة مصرية لكان الأمر هيناً على إسرائيل، ولكن أم كلثوم كانت ثروة قومية حقيقية، فتعتبر أم كلثوم أول فنانة عربية تقوم بالتبرع لصالح المجهود الحربي إبان الحرب العالمية الثانية من خلال سلسلة ضخمة من الحفلات داخل وخارج جمهورية مصر العربية ذهبت أرباحها لصالح المجهود الحربي المصري، غير تبرعاتها المتعددة من مالها الخاص، في العدوان الثلاثي على مصر، فمثلاً تبرعت بمبلغ 10 آلاف جنيه، ناهيك عن التكليفات السياسية الهادئة التي كان يكلفها بها الرئيس جمال عبدالناصر مثل زيارتها إلى تونس 1968 في وقت انقطاع العلاقات بين مصر وتونس وأعادت أم كلثوم بذكائها الفني والدبلوماسي العلاقات بين البلدين.
كل هذه الأمور جعلت أم كلثوم هدفاً لجهاز الموساد الإسرائيلي، وبالفعل تم اقتراح فكرة اغتيال أم كلثوم على الموساد أكثر من مرة، وتم تكليف عناصر لمراقبتها في مصر، حتى إنه قد وصل الأمر بهم إلى زرع أجهزة تنصت في فيلتها الكائنة في شارع أبو الفدا في الزمالك ومحاولة دس الرعب في قلبها عن طريق حادث السيارة المدبر التي تعرضت له في شارع الهرم في الجيزة.
في رحلتنا هذه نتعرف على مواقف متعددة قد تورطت فيها "كوكب الشرق" مع الإسرائيليين وعلى مدار سنوات طويلة قد تعرضت فيها إلى خداعهم، ولعل عادتهم في حفظ تراثهم الورقي وأرشيفهم بكل شكل من الأشكال قبل 1948 ونقله إلى دولتهم بعد إعلانها في 14 مايو/أيار 1948، قد ساعدنا في الوصول إلى بعض الوثائق، التي تضم الكثير من الحكايات السرية والغريبة ومنها حكايات تحمل اسم أم كلثوم.
زيارة الطفلة أم كلثوم إلى معبد حاييم كابوسي في القاهرة
في بداية القرن العشرين كانت الطائفة اليهودية في مصر تشتهر بتقديم الخدمات المجتمعية، ولم تقتصر تلك الخدمات على المصريين من الديانة اليهودية ولكنها كانت تشمل جميع طوائف الشعب، وهذا ما جعل الشيخ إبراهيم البلتاجي وابنته فاطمة البلتاجي "أم كلثوم" يتوجهان إلى معبد حاييم كابوسي في القاهرة لحل مشكلة "الرمد" في عين أم كلثوم، وهو الذي اشتهر عنه أنه صاحب المعجزات، هذا بعد أن فشلت محاولة الأطباء في طماي والقاهرة، حتى إن ضريح أبوحصيرة الشهير في دمنهور "دميتوه" والمعروف ليهود المغاربة بأنه صاحب الكرامات قد نال زيارة من أم كلثوم ووالدها ولكن دون جدوى.
فكانت المحطة الثانية لهم وبناءً على نصيحة العديد من الناس هي معبد حاييم كابوسي الذي يذهب إليه الناس من كافة الطوائف للتبرك بكراماته خاصة في شفاء العيون. وتم استقبال الطفلة في المعبد أفضل استقبال، حتى إنه تم إعطاء الشيخ صندوق من فواكه لم يكن يدرك أن لها وجوداً من الأساس، وأخبره خادم المعبد أن هذه الفواكه هي علاج أم كلثوم وعليها أن تأكل منها كل يوم صباحاً ومساءً لمدة أسبوع كامل، وبعدها سوف تشفى من أمراضها، ونفذت أم كلثوم ما قاله لها الخادم اليهودي تحت إشراف والدها الشيخ إبراهيم.
صراع الست والسلطانة وبداية استغلال الوكالة الإسرائيلية
على مدار عمرها الفني خاضت أم كلثوم العديد من المعارك الفنية، ولكن تظل معركتها مع "سلطانة الطرب" منيرة المهدية هي الأشهر والأكبر، فكلتاهما كانت صاحبة شخصية قوية وطموح لا حدود له. ولكن مع انشغال منيرة المهدية بالسياسة والسياسيين لسنوات أبعدتها عن الساحة الفنية كان أمر عودتها صعباً، خاصة أن أم كلثوم قد أصبحت مطربة عملاقة لا يستطيع أي أحد أن يزيحها عن الساحة، فاستخدمت منيرة أساليبها القديمة في مهاجمة سمعة أم كلثوم عن طريق سلسلة مواضيع صحفية بصحيفة "كوكب المسرح" تطعن في سمعة أم كلثوم. بل وجنّدت صحفيين ليطلقوا حملة لإثبات أن أم كلثوم ليست بهذه البراءة والوداعة وهي التي غنت "الخلاعة والدلاعة مذهبي".
لم تهدأ منيرة المهدية ووسعت نطاق هجومها ليشمل صحيفة "روز اليوسف" والتي نشرت في عدد 2 مارس/آذار 1928 مانشيت رئيسياً بعنوان "ليلة مغنية الأفاعي" وكانوا يقصدون أم كلثوم ويؤلفون قصصاً غريبة عنها، لم تقف أم كلثوم بالطبع أمام هذه الحملة مكتوفة الأيدي بل كانت تتواصل بشكل دائم مع القصر الملكي ومجلس الشيوخ ويوسف قطاوي باشا (رئيس الطائفة الإسرائيلية – اليهودية الشرقية) في القاهرة، حتى أنه قد وصل بها الأمر أنها شكت إلى الملكة نازلي زوجة الملك فؤاد عن طريق وصيفتها السيدة أليس سوارس والتي قد وعدتها أنها ستبذل قصارى جهدها لمساعدتها.
أطلعت سوارس زوجها، الذي كان يوسف قطاوي رئيس الطائفة اليهودية، على المشكلة التي حدثتها بها أم كلثوم، وبالصدفة تزامنت هذه الشكوى مع توقيع عقد منيرة المهدية على رحلة غنائية على مسارح فلسطين في حيفا والقدس ويافا، وأن المستوطن الإسرائيلي ومتعهد الحفلات السيد ألبرت فلويد، قد دفع مقدم ألف جنيه مصري إلى منيرة المهدية.
فكر يوسف قطاوي باشا فيما يمكن أن يفعله وكيف بإمكانه أن يستغل هذا الموقف للإطاحة بمنيرة المهدية والتي كان تعاونها المشترك مع الاستخبارات الملكية البريطانية يعتبر نشاطاً معادياً للكيان الصهيوني في فلسطين، بل إن منظمة الدفاع الصهيونية "الهاجاناه" قد خططت للتخلص من منيرة المهدية في حادث سيارة مدبر، ولكن كان لقطاوي باشا خطة أخرى ورأي آخر.
فهو كان يرى أن اغتيال فنانة كبيرة في مصر قد يحوّل الأمر إلى كارثة، ما يمكن أن يقوم بتعريض يهود مصر إلى خطر كبير من أعمال عنف انتقامية. فكانت خطته في استغلال أم كلثوم للإطاحة بمنيرة المهدية من على الساحة نهائياً، وكانت بداية الخطة في تبديل رحلة منيرة المهدية إلى فلسطين بأم كلثوم منافستها الشابة الوحيدة في الجمهورية.
وبالفعل تم الاتصال بأم كلثوم وإخبارها أن يوسف قطاوي باشا قد تدخل من أجل أن تسافر أم كلثوم بدلاً من منيرة المهدية لإحياء عدد من الحفلات على مسارح فلسطين بمقابل ألفي جنيه لكل رحلة.
وكشف لها قطاوي باشا أنه بنفوذه وعلاقاته قد ألغى تعاقد منيرة المهدية مع مسارح القدس وأرسل لهم أنه ستسافر إليهم أم كلثوم صاحبة الصوت الطربي الأصيل، ومن شدة ثقتها به أوكلته من يومها في التوقيع نيابة عنها واستلام حقوقها المادية.
خداع أم كلثوم واستغلال الحركة الصهيونية
مبلغ ألفي جنيه ذهبي عن كل رحلة هي ثروة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولكن أم كلثوم لم تكن تعلم أنها فقط تحصل على نصف المبلغ، لأنه في حقيقة الأمر كان قطاوي باشا يجتزئ النصف الآخر ويحوله على شكل تبرعات باسم أم كلثوم إلى "الطائفة اليهودية في القاهرة".
هذه المعلومات كشفتها ملفات وثائق قطاوي باشا السرية التي هُربت من مصر إلى إسرائيل في منتصف العام 1950، كانت الوثائق تذكر أن مبلغ ألفي جنيه في هذا الوقت هو مبلغ طائل وقت أن كان الجنيه يساوي 10 دولارات أمريكية.
وظل قطاوي باشا بعلاقاته يحصل على تعاقدات فنية لأم كلثوم في دول الشام كلها لعشر سنوات حتى العام 1942 وكانت آخر رحلة لأم كلثوم في فلسطين، وقد توفي قبلها يوسف قطاي باشا، ولم تكن تدرك أم كلثوم أنها ضحية مؤامرة صهيونية بل كانت تثق به ثقة مبالغاً بها وتشكره على وقوفه بجانبها ومساعدتها على الخروج من محنتها، وهو على الجانب الآخر كان يمول المشروعات الصهيونية في فلسطين في سرية دون أن يأخذ من صندوق الطائفة اليهودية في القاهرة، فكانت التبرعات تتعدى آلاف الجنيهات الذهبية لصالح الجامعة العبرية في القدس وكلها من أموال أم كلثوم.
لقب "كوكب الشرق" أطلق عليها في حيفا
في شهر مايو/أيار من العام 1935 غنت أم كلثوم على مسرح عين دور،، نالت أم كلثوم لقب "كوكب الشرق" والذي ظل مصاحباً لها طوال حياتها ومسيرتها، ففي وسط حفلها كانت تجلس الست "أم فؤاد" من اليهود السوريين في الصف الثالث خلف كبار الزوار والذي كان من بينهم بالمناسبة ديفيد بن غوريون السياسي الإسرائيلي الشهير، والغريب أن أم فؤاد حضرت الحفل بعد أن أجبرت زوجها فؤاد الحلبي على شراء تذاكر أم كلثوم وكانت باهظة الثمن وقتها بالنسبة لتاجر أقمشة، وبدأت أم كلثوم حفلتها بأغنية "على بلد المحبوب وديني" من ألحان رياض السنباطي، وسط دهشة وسعادة جميع الحاضرين وبكاء السيدة "أم فؤاد" الذي لفت نظر جميع الحاضرين حتى أن أم كلثوم انتبهت لها واستغلت الاستراحة بين الوصلتين ونظرت لها وقامت بتحيتها، فجَرَت أم فؤاد نحوها وحاولت الصعود إلى المسرح لكن حرس المسرح منعها حتى أشارت لهم أم كلثوم بأن يتركوها، فصعدت لها وحيتها أم كلثوم وطلبت منها عدم البكاء وتمنت لها حياة سعيدة ومازحتها قليلاً حتى تحولت دموعها إلى ابتسامات.
وعادت أم كلثوم إلى فرقتها وأشارت بيدها إلى الفرقة لتبدأ الوصلة الثانية بغناء "أفديه إن حفظ الهوى"، وما أن انتهت أم كلثوم من الوصلة حتى قامت "أم فؤاد" من مقعدها ونادت على أم كلثوم قائلة: "أنت قمر الغناء الشرقي.. لا.. أنت كوكب الشرق المنير". فاشتعل المسرح بالتصفيق لأم كلثوم على إبداعها ولأم فؤاد التي دون ترتيب أو قصد قد أطلقت على أم كلثوم في هذه اللحظة أهم وأشهر ألقابها الفنية.
اكتشاف أم كلثوم لخديعة الوكالة الصهيونية
يذكر التاريخ أن آخر حفلة للسيدة أم كلثوم على مسارح فلسطين كانت في صيف العام 1942تحديداًا بعد وفاة يوسف قطاوي باشا والذي سجل تاريخ وفاته في سجلات الوفيات الرسمية المصرية بتاريخ 12 مايو/أيار 1942.
فبعد أن اكتشفت أم كلثوم عن طريق الصدفة البحتة أنها كانت ضحية عملية خداع واستغلال امتدت لأكثر من عشر سنوات وأن نصف تعاقداتها ذهبت بشكل رسمي لصالح الطائفة اليهودية في القاهرة تحت إشراف يوسف قطاوي باشا شخصياً، توقفت عن الذهاب إلى مسارح عيدن وحيفا وحرصت حتى وفاتها على عدم الحديث عن حفلاتها في فلسطين بأي شكل من الأشكال.
ولكن كيف اكتشفت أم كلثوم الخدعة الكبرى؟
يروي الباحث التاريخي توحيد مجدي في كتابه "أسرار عملية عيون البقر" الصادر عن دار المعارف أنه في صيف عام 1942 وصلت أم كلثوم إلى القدس في رحلتها السنوية المعتادة لأداء ست حفلات غنائية، وأثناء استعداد أم كلثوم للحفلة الأولى في مدينة القدس سمعت أم كلثوم وأخوها الشيخ خالد البلتاجي الذي كان يرافقها في جميع رحلاتها خارج البلاد ومساعدتُها الفلسطينية، صوتَ شجار ساخن بين مالك الدار والمديرين الجدد "السيدة اليشيباع شابيرا وزوجها السيد موشيه شابيرا"، وكانا يتحدثان باللغة العبرية على أساس أنه حتى لو سمعت أم كلثوم وأخوها شيئاً فلن تفهم شيئاً، ولكن السيد والسيدة شابيرا لم يكونا يدركان أن مساعدة أم كلثوم الفلسطينية الآنسة مريم داود تتحدث عدة لغات من بينها العبرية وهي التي رافقت أم كلثوم في جميع رحلاتها في فلسطين، فسمعتهما وهما يختلفان حول قيمة العقد ونسبة الأرباح وسمعت أيضاً أمر البند السري الموجود في التعاقد الأصلي باقتطاع نصف أجر أم كلثوم لتوريده كتبرعات يهودية مصرية رسمية باسم مشروعات الجامعة العبرية في القدس.
وحكت الآنسة مريم داود إلى أم كلثوم كل ما قد قيل في الشجار بالتفصيل، فظلت أم كلثوم تبكي من هول صدمة السر الذي اكتشفته وسرقة قطاوي باشا واستغلالها لصالح تمويل مشروعات في إسرائيل، بل والأسوأ أنه لن يصدق أحد أنها كانت ضحية خدعة منظمة وممنهجة وكل هذه الأموال التي انتقلت كتبرعات رسمية كانت باسمها ما قد يترتب عليه عواقب وخيمة، لكن وسط كل هذا التوتر والرعب، قررت أم كلثوم بذكاء أن الجمهور الذي حجز كل مقاعد المسرح ليس له ذنب فيما حدث فخرجت وغنت أم كلثوم بكل الحب وكانت في نفسها تودع جمهور فلسطين فكان أجمل ما يكون من وداع.
المصادر
– أم كلثوم والموساد.. أسرار عملية عيون البقر – توحيد مجدي – دار المعارف 2017
– أم كلثوم التي لا يعرفها أحد – محمود عوض – أخبار اليوم
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.