سأحاول في هذا المقال، الذي أنا بصدد تدبيجه، كشف عمق هذه الرّواية والسبر في بنيتها السردية. وهي في الحقيقة امتدادٌ حقيقي لأعمال أدبية لكتّابٍ يسعدون بمكانة متميّزة في المشهد الثقافي العربي، لأنّها هي الرواية الثالثة التي أقرأها وأجدها تتكئ على الطفولة وتعود إليها باستمرار، لأنّ أصحابها، كما أعتقد، وجدوا فيها مادّة غنيّة، ليقدّموا لنا أعمالا روائيّة في غاية الأهمية، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر: عبده خال في روايته الموسومة بـ: "ترمي بشرر" الحائزة على جائزة البوكر العالمية سنة 2010م، وطارق بكّاري في روايته "القاتل الأشقر".
بدأ محمّد بدازي روايته التي وسمها بعنوان: أشياء غير مكتملة، والصادرة عن دار فاصلة للنّشر خلال السنة المنصرمة في 184 صفحة من القطع المتوسط، بسرد حكاية شابٍ ينحدر من الطبقة المغلوب على أمرها والذي جاء من الهامش (الكاريان) وعاش طفولة ممزّقة، وترعرع في عائلة متشظّية، ولم يستمتع بأهم مرحلة من مراحل حياته؛ الطفولة. ليجر معه كمّاً هائلاً من الأحزان والانكسارات، واكتشف بداخله قلباً يعتصره الألم ويكتظّ بالخيبات. حصل الرّوبيو، بطل الرواية، على وظيفة كصحفي يكتب مقالات تعنى بالثقافة، وعرف عدّة فتيات، كلهنّ أجّجوا بداخله المزيد من المأساة.
عاش الرّوبيو معظم حياته في الكاريان الحاضن لذكرياته، في ظلّ غياب والده، وبعده الدائم عن والدته، وقد كانت أحلامه منحصرة في الكاريان الذي يتقاسم العيش فيه برفقة المهمشين والممزقين والذين انقادوا للضياع والتيه. انتشلته وظيفته من الفقر والإملاق ليرتمي في حضن حياةٍ كريمة، لكن مطبّات الحياة أبت ألّا ينعم بحياةٍ هنيئة ليجد نفسه في مشكلة تلو أخرى.
قضى الرّوبيو ليلة مرتمياً في أحضان خليلته المدعوّة هبة، بيد أنّ هذه الأخيرة استشعرت خطر فراقهما بعد انحاز عنها الروبيو شيئاً فشيئاً. لتختار لنفسها الانتحار وأقدمت على ذلك بمحاولة جديّة لولا تدخّل من عشقته عشقاً جارفاً لماتت. اختيارها ذاك جرّ على الروبيو جبلاً من المشاكل بعدما وجد نفسه مسجونا بتهمتي: الفساد ومحاولة القتل، لولا أنّ الأقدار تعاطفت معه، ونجح الأطباء في إنقاذ هبة، ليخرج من السجن بعدما كلّف مدير عمله أفضل المحامين في المدينة لينتشله من غياهب السجن. وقد اغتنم فرصة تواجده في السحن ليرسم خطوط روايته ويتقدّم فيها بشكلٍ جيّد.
تنقل محمّد بدازي في روايته أشياء غير مكتملة على ثلاثة خطوط أساسية: أولاً الطفولة التي كانت المحرّك الأساسي لمجمل أحداث الرواية. وعندما أقول الطفولة فلا بدّ أن أستحضر تأزم العلاقة الأسرية التي تكون سبباً وجيهاً لتمزّق الطفل ليظلّ ماضيه يلاحقه ولا يبرح ذاكرته المعذّبة، بالإضافة إلى الضياع الذي طبع طفولة الرّوبيو في الكاريان الذي تنعدم فيه أبسط ظروف العيش الكريم لطفل يحملُ بداخله قلباً حالماً وتطلّعات بريئة. والخيط الثاني هو الحب الذي افتقده الرّوبيو في مختلف مناحي حياته، والخيط الثالث هو الجنس الذي كتب عنه صاحب النّص بعيداً عن العبارات الفجّة والمبتذلة التي تثير اشمئزاز القارئ كيفما كانت منطلقاته، مستعملاً لغة أنيقة تبيّن مدى تمكنه من مقاليد اللغة. هي ثلاثة خطوط إذن استطاع عليها القفز برشاقة، إذ ما يكاد ينتهي من إكمال خيطٍ معيّن حتى يُدخل القارئ إلى آخر، وهذا يدل على غنى المادّة الحكائية التي عرف محمّد بدازي كيف يتصرّف فيها طوال أحداث الرّواية.
دارت أحداث الرّواية برفقة ثلاث شخصيات أساسية كلهنّ فتيات: أولهنّ هبة التي عاشرت الرّوبيو وأقحمته في حبّها عنوةً، وبعدما أحسّت بابتعاده شيئاً فشيئاً أقدمت على محاولة الانتحار، ليجد البطل نفسه قابعاً في سجن تنخره الرّطوبة وممتلئ بالمعضلات، بيد أنّ تجربة السجن، التي قضاها متهماً بالفساد بعدما أنقذته هبة بعدما استيقظت من غيوببتها لتجنّبه تهمةً ثقيلة كانت كفيلة بقضائه لما ينيف عن العقدين في غياهب السجن، كانت مهمّة لأنّه استغلها وكأنه معتادٌ على مجابهة الصعاب بجسارةٍ وثبات وبلور فيها مشروع روايته المزعومة. هي تقنية فريدة بلا شك، لأنّ صاحب الرواية استعمل تقنية كتابة الرواية داخل الرواية، وقد لقيّت هذه التجربة استحساني. ثم شخصية ملاك وصوفيا، كلاهما لعبتا دوراً مهماً في تحريك وانعطاف الأحداث، دون نسيان صديق طفولته والذي رافقه في مختلف مراحل حياته المدعو "زريقة".
شهِدت رواية "أشياء غير مكتملة" حضوراً قوياً لأسئلة فلسفية عميقة، وتعمّد الكاتب أيضاً ترويج أسئلة وجودية في غاية الأهمية، كما أنّ الجرأة التي تحلّى بها في معالجة مختلف مواضيع النّص تنمّ عن خلفية فلسفية أصيلة. ليس هذا فقط بل قدّم صاحب النّص تصوّره وموقفه من الكتابة في عدّة مواقع من الرواية، ولا غرو إذا قلت أنّ الهاجس الذي ظلّ يأسره هو فعل الكتابة وجدواها، وهذا يظهر للقارئ بجلاء. ما أعجبني في الرواية، بالإضافة لعدة إيجابيات سبق وذكرتها، هو ذِكر الكاتب لأسماء روائية عالمية يتبنّى أسلوبها ورؤاها، ويحثّ الخطى للسير على نهجها وأذكر هنا على سبيل المثال: الكاتب الأمريكي تشارلز بوكوفسكي والكاتب المغربي الشّهير محمد شكري، بالإضافة لأسماء تصنف هي الأخرى ضمن لائحة أيقونات الرواية العالمية الشيء الذي يدلّ على احتكاكه النّوعي بنصوص الكُتّاب الكبار.
ملاحظتي الوحيدة على الرواية هي أنني كنت أحسّ بإنهاك يحيط بالكاتب أثناء السّرد، وربما لأنّ هذه الرّواية هي تجربته الأولى، ورغم ذلك كانت تجربةً موفّقة دون رين. فلو تحلّى بالنّفَس الطويل في سرده للأحداث لرأينا روايةً أخرى أكثر نضجاً سواء من ناحية الشّكل والمضمون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.