ما زال العالم منشغلاً بحادثة جنوح السفينة العملاقة في قناة السويس بسبب "الظروف الجوية السيئة"، كما ذكرت المصادر الرسمية، التي أدت لانحرافها بشكل عرضي؛ ما تسبَّب في شلل تام لحركة السفن في القناة، لتبدأ المخاوف الدولية بالتزايد مع مرور الوقت. ولا عجب، فأحد أخطر شرايين الاقتصاد العالمي أصيب بجلطة سدته بالكامل، ولم تُفلح حتى اللحظة جميع المحاولات الإسعافية لإعادة تعويم تلك "الجلطة"، بحيث تواصل السفن حركتها لإنعاش الحياة الاقتصادية العالمية، التي ما زالت في "غرفة العناية المشددة" تحت وطأة جائحة الكورونا، لتُكمل "الجانحة" ما بدأته "الجائحة"!
وفي خضم الترقب والقلق الدوليين تضجّ وسائل الإعلام بتغطيات حادثة مؤسفة ومؤلمة، ولكن هذه المرة لم تكن الحياة الاقتصادية هي محور الحدث، بل كانت الحياة الإنسانية للأسف ثمناً باهظاً لها. فمن السويس الباسلة إلى صعيد مصر الطاهر، انتقلت أنظار العالم بصدمةٍ شديدة وحزنٍ ولوعة لِتُتابع مشهدَ اصطدامٍ مفزع لقطارين في محافظة سوهاج، والقاطرات تسحق لاحقتها سابقتها، الواحدة تلو الأخرى، لينجم عن الحادث أعداد كبيرة من الضحايا وعدد أكبر من الإصابات.
لا شك أن مبرر سوء الأحوال الجوية لحادثة جنوح السفينة يبدو مبرِّراً مقبولاً يمكن تفهُّمه، كما لا شك أنني أُسلِّم تسليم المؤمن المتيقن بمفهوم القضاء والقدر في حادثة قطار سوهاج، كما أنني أستوعب أن الأخطاء البشرية كما الآلية واردة الحدوث، وأدرك أن الإهمال والتسيُّب هما من الآفات التي ابتُليت بها البشرية، وأن الفساد داءٌ مستعصٍ منذ الأزل، ولأنني في هذا المقال لستُ بمحض تحليل مسببات الحادث وتوزيع الأدوار وتحميل الأوزار، فإنني أترك هذا الأمر للمهنيين من ذوي الخبرة و الاختصاص.
تابعتُ كما تابع العالمُ الحدثين عبر وسائل الإعلام، وشاهدت كما شاهد كثيرون في مواقع التواصل الاجتماعي الصور التي تسرّبت والمقاطع التي بُثّت بعد الحادثتين. وكان أكثر ما لفت انتباهي في كلتا الحادثين هو مقدار سرعة الاستجابة، ومدى نجاعة المعالجة ومستوى التمكن في إدارة الأزمات، فهل كانت السلطات المحلية على مستوى الحدث؟
أظنّ أنه من العبثية بمكان محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات المطروحة، واحتراماً لعقل ووقت القارئ الكريم سأتجاوزها لأطرح فكرةً جدلية.
الحوادث تقع في كل مكان وزمان، تختلف أنواعُها وتتنوع مُسبِّباتها، حتى في أكثر دول العالم تقدماً وثراءً تقع عندهم حوادث من هذا النوع، لكن ربما بوتيرة أقل. وحيث إن قوانين القضاء والقدر هي سنة الله في أرضه وليست حكراً على العرب أو المسلمين، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا بإلحاح: لماذا تكون استجابتنا لتلك الحوادث "مخزية"، بالمقارنة مع استجابة الدول المتقدمة؟
لماذا تهرع العشرات، بل المئات من سيارات الإسعاف والشرطة والدفاع المدني في الدول المتقدمة لموقع الحدث وتباشر أعمالها في غضون دقائق مسابقةً الزمن؟ كيف يديرون تلك الأزمات بحنكة واقتدار، من مختصين مؤهلين للتعامل مع مثل هذه الظروف ببراعة وإتقان؟
لماذا تكون نتائج تلك الكوارث هناك أخف وأهون من فداحة خسائرنا وعمق جراحنا؟
السبب ببساطة هو قيمة الإنسان وحياته عندهم، فالدولة وأجهزتها هناك مُسَخّرةٌ لخدمته ولحمايته ورعايته، ونجدته إذا دعت الحاجة، ليس ذلك فحسب؛ بل إن الأمر يتعدى الإنسان إلى ممتلكاته، فمن واجب الدولة الحفاظ على مصالحه وممتلكاته وبضاعته، لذلك تراهم يهبّون فوراً لنجدة الإنسان إذا تصادمت عندهم القطارات، ويستنفرون مباشرةً للحفاظ على مصالحه إذا جنحت عندهم سفينة.
لستُ من هواة جلد الذات، ولستُ أبحث عن اللطم في مأتم، ولكن لا بد لنا من وقفة صادقة مع النفس، والبحث في مكامِن الخلل، إذ نحن مأمورون بأن نعقلها ونتوكل، ولكننا لا عقلنا الناقة ولا أحسنَّا التوكلَ، فقد أدمنَّا الحزنَ وألِفنا دور الضحية. وصادف أن يكون مسرح الحدثين هذه المرة في مصر، ولكن لن يختلف الحال كثيراً مهما تغيّرت الجغرافيا العربية من المحيط إلى الخليج، وما دامت قيمة الإنسان في بلادنا هكذا فما زال مشوار رُقي أمتنا طويلاً جداً، وتألق حضارتنا باهتاً إلى حدِّ الخمود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.