حين افتُتِحَت توسعة قناة السويس، أو ما أطلق عليها "قناة السويس الجديدة"، بطول 35 كيلومتراً قبل 6 سنوات، ظهرت لافتات في شوارع القاهرة تزعم أنّها "هدية مصر للعالم".
ورحّب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بالزعماء الأجانب الحاضرين للاحتفال على متن يخته، بينما حلّقت المروحيات والطائرات النفاثة في السماء، واحتُفِيَ بالتوسعة باعتبارها انتصاراً قومياً ونقطة تحول بعد سنوات من عدم الاستقرار.
وحين أُغلِقَت قناة السويس دون احتفال بواسطة سفينة حاويات طولها 400 متر، جنحت بفعل عاصفةٍ رملية يوم الثلاثاء 23 مارس/آذار، ساد الصمت التام، وطيلة 26 ساعة لم يتحدّث أحدٌ عن إغلاق القناة، أو السفن المتكدسة في البحرين المتوسط والأحمر، أو حتى السفينة "إيفر غيفن" نفسها.
وبدلاً من ذلك، أصدرت هيئة قناة السويس بياناً إعلامياً أعلنت فيه عبور سفينة سياحية إيطالية تحمل على متنها 65 حالة مصابة بكوفيد-19. وساد التعتيم الإعلامي التام.
وفي يوم الأربعاء الـ24 من مارس/آذار، بدأت الأكاذيب تختمر مع أول بيانٍ رسمي يُشير إلى أنّ الجهود "متواصلة لإعادة فتح القناة". وقللت هيئة قناة السويس من تأثيرات ذلك على الملاحة، باعثةً بـ"رسالة طمأنة مفادها أنّ الملاحة ستتواصل كالمعتاد". ولتأكيد تلك الرسالة، سمحت الهيئة لقافلة من السفن بدخول القناة من الشمال في بورسعيد ذلك اليوم.
تغذية البروباغندا
حذّرت هيئة قناة السويس الصحفيين من الالتفات لأي أخبار أو شائعات عن أخطر حادثة إغلاق للقناة منذ حرب 1973 بين العرب وإسرائيل، باستثناء التصريحات الصادرة عن الهيئة مباشرة. ولم يكن الصحفيون المصريون بحاجةٍ إلى دافع من أجل الانصياع لتلك التوجيهات، فقاموا بتغذية طاحونة البروباغندا، واحتفوا ببيان هيئة قناة السويس، الذي زعم أن السفينة قد أُعيد تعويمها بنجاح، لدرجة أنّهم حاولوا إثبات ذلك بصور الأقمار الصناعية، رغم أنّ تلك الصور كانت تُظهر السفينة وهي لا تزال ثابتةً في مكانها.
كما أُخفيت الحقيقة عن شركات الشحن الدولية أيضاً، إذ نقلت شركة شحن Gulf Agency Egypt عن هيئة قناة السويس قولها إنّ سفينة الحاويات العالقة في القناة لأكثر من يوم قد جرى تعويمها جزئياً، وتقف على جانب إحدى ضفتي القناة، وإنّ حركة المرور سوف تُستأنف قريباً.
وحصلت صحيفة Lloyd's List البريطانية على القصة نفسها، بعد أن نقلت اطّلاعها على رسالة بريد إلكتروني من الشركة المصرية، إلى رابطة ملّاك السفن الصينية: "لا نزال في انتظار معلومات مؤكدة بشأن اتجاه قطر السفينة. وسوف تعود حركة المرور والقوافل إلى طبيعتها في غضون وقتٍ قصير للغاية، بمجرد جرّ السفينة إلى منطقةٍ أخرى"، وهذا وفقاً للمعلومات التي قدّمتها هيئة قناة السويس مباشرة صباح الأربعاء.
وفي يوم الخميس 25 مارس/آذار، بعد يومين من بدء الفوضى، أعلنت هيئة قناة السويس رسمياً تعليق الملاحة.
الحكومة المصرية متمرسةٌ في الكذب؛ إذ تكذب على شعبها كل يوم، ولكنّها في أوقات الأزمات تكذب على المجتمع الدولي أيضاً.
فحين أُسقِطَت طائرة الركاب الروسية عام 2015 بواسطة صاروخ لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بعد 23 دقيقة من رحلتها التي انطلقت من مطار شرم الشيخ في طريقها إلى سان بطرسبرغ، ألغت روسيا والمملكة المتحدة كافة رحلاتها الجوية إلى المدينة الواقعة على ساحل البحر الأحمر فوراً.
وحينها أصدرت وزارة الطيران المدني تقريراً أولياً يزعم عدم وجود أدلة على إسقاط الطائرة بعملٍ إرهابي، وحمّلت المسؤولية لعيبٍ فني. وكان سبب الإنكار واضحاً، فشرم الشيخ هي جزءٌ لا يتجزأ من صناعة السياحة في البلاد. وقد استغرقت السلطات أكثر من ثلاثة أشهر قبل الاعتراف بأنّ الطائرة قد سقطت نتيجة صاروخٍ أطلقته ولاية سيناء، التي بايعت داعش.
درسان قاسيان
من الصعب الاستمرار في تأكيد أنّ سفينة بحجم "إيفر غيفن" قد تم تعويمها، حين يكون من الواضح تماماً أنّها لا تزال جانحة.
وبعيداً عما ستنتهي إليه أزمة قناة السويس، فإنّ هذه الواقعة علّمت العالم درسين قاسيين عن مدى أهمية القناة ومصر بالنسبة للشحن الدولي، وعن مدى كارثية وعدم كفاءة طريقة إدارة الاثنين.
وعدم كفاءة ديكتاتورية السيسي، بعبارةٍ أخرى، ليست مسألة تستوجب اهتماماً دولياً في قضايا حقوق الإنسان وسيادة القانون فقط. إذ إنّ عدم كفاءة السيسي هي مسألةٌ تُهدّد حتى الممرات المائية الدولية الكبرى.
وبالنسبة للمستقبل القريب، فإنّ أزمة قناة السويس هذا الأسبوع لم تكُن لتحدث في لحظةٍ أسوأ. إذ تُعزّز مصالح الدول الخليجية المنتجة للنفط والغاز في استكشاف طرق أخرى لاجتياز القناة من خلال توجيه منتجاته لتمر عبر إسرائيل، إذ أدّى التطبيع الإماراتي مع إسرائيل إلى سيلٍ من التعاقدات والمشروعات، وكلها تُمثّل تهديداً وجودياً لاحتكار مصر مرور البضائع عبر القناة.
وليس هناك دافعٌ للعثور على طرقٍ جديدة لاجتياز القناة، ومصر أكبر من رد الفعل المصري تجاه حادثةٍ بهذا الحجم، سواء جاء ذلك من خلال خط الأنابيب الذي بناه شاه إيران وظل مهجوراً لسنين، أو خط سكة حديدية جديد، أو حتى قناة تمُر عبر صحراء النجف.
حكم السيسي الكارثي
على المدى البعيد، هناك الآن نمطٌ واضح من الانحدار والكارثية في حكم السيسي. فإلى جانب كل القضايا الأخرى التي ورّط بلاده فيها -مثل دعم الجانب الخطأ في ليبيا، والمطاردة المضنية للإخوان المسلمين في الداخل والخارج- كان لدى السيسي قضيتان وجوديتان عليه القلق بشأنهما، لكنّه فشل في كليهما.
الأولى كانت قناة السويس، والثانية هي الحفاظ على منسوب مياه النيل، إذ سخر السيسي من رئيسه السابق محمد مرسي، وقلّل من شأنه حين أثار المخاوف بشأن السد الذي كانت تبنيه إثيوبيا عام 2012، ثم رتب لتسريب تفاصيل اجتماعٍ خاص لإحراج الرئيس.
وكان رأي الجيش المصري هو أنّ القضية أخطر من أن يتعامل معها رئيسٌ من الإخوان المسلمين، لذا قرروا تنحية القضية جانباً، وضاعف السيسي حينها خطأه بالتوقيع على إنهاء مطالبة مصر في اتفاقٍ مع إثيوبيا والسودان عام 2015. والآن تُشير التقارير إلى أنّه يُفكّر في التدخل العسكري قبل أسابيع من تعبئة السد للمرة الثانية، بعد الانتهاء من إنشائه قبل وقتٍ طويل.
وبدلاً من تركيز موارده المحدودة على القضيتين الأهم لبلاده؛ أمضى السيسي وقته بالكامل في الهوس بتحسين صورته.
ويُمكن الاطلاع على أولويات السيسي الحقيقية في سنوات نزوله بمصر إلى الحضيض، عبر النافذة الرسمية لجماعات الضغط العاملة بالنيابة عن الحكومة المصرية في واشنطن، والتي تُقدّم سجلاتها إلى وزارة العدل الأمريكية بموجب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب.
إذ كشف تحقيقٌ في تلك السجلات الرسمية، أجرته مجموعة من الصحفيين المصريين، في موقع "ساسة بوست"، كيف تجاوزت عمليات الضغط السياسي في واشنطن الحدود بعد مذبحة رابعة عام 2013، وما تبعها من تعليق لـ260 مليون دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية، التي لا تُمثل سوى جزءٍ ضئيل من حزمة المساعدات الكاملة التي تصل إلى 1.3 مليار دولار.
إذ دفعت حكومة السيسي لمجموعة Glover Park Group نحو 250 ألف دولار شهرياً، من أجل الضغط على أعضاء الكونغرس البارزين الذين يُعارضونه، مثل السيناتور ليندسي غراهام والراحل جون ماكين. وقضت المجموعة عامين في الضغط على غراهام، حتى غيّر موقفه بحسب ساسة بوست. وبين عامي 2013 و2019، دفع السيسي لتلك المجموعة فقط 31.25 مليون دولار، وهو مبلغٌ ضخم في سوق الضغط السياسي بواشنطن.
تبييض صورة النظام
تُرى ما هي اهتمامات مصر في واشنطن؟ تبييض صورة السيسي، واستهداف اليمين الأمريكي وأنصار إسرائيل بالدعاية، والتركيز على "اليمين المتدين" مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. وبعبارةٍ أخرى، فقد أنفق السيسي جميع أمواله على صورته، ولم يُنفق أي أموال على المسائل المهمة لبلاده في الواقع.
ولكن هذه هي أولويات السيسي، إذ لم يتفوّه بكلمةٍ واحدة عن أزمة قناة السويس حتى الآن.
وبات من المألوف الآن أن نسمع جملة أن مصر دولةٌ فاشلة، دولةٌ تخذل مواطنيها بموارد مستنفدة، واقتصادٍ ضعيف ينهبه الجيش المصري، ومستويات متزايدة من الفقر الذي يُؤثر على عشرات الملايين من الناس.
لكن المجتمع الدولي لم يُدرك بعد حقيقة أنّ السيسي ليس خطراً على شعبه وبلده فقط، بل يُشكّل أيضاً خطراً على التجارة والاستقرار العالميين. وربما سيكون جنوح سفينةٍ ضخمة في ممرٍ ضيق كافياً ليُدرك المجتمع الدولي هذه الحقيقة.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.