يتخلل المجال الحديث لصناعة السينما المغربية حرفياً عبارات النقاد والكتاب الموهوبين حول النقص الكارثي في سيناريوهات الأفلام عالية الجودة، في الوقت نفسه، إذا كنت تفكر في أسباب نقص المواد النصية عالية الجودة، فيمكنك تخيل خيارين فقط، الأول هو أنه تتم كتابة عدد قليل من النصوص الآن (ومن الواضح أنه خيار مستبعد)، والثاني هو أنه تتم كتابة عدد كبير جداً من النصوص، ويتم ترتيب مكان لها في سلة المهملات بعدما تلوثت أيديهم بطلاء الطباعة وتورمت أصابعهم نتيجة الإفراط في استخدام القلم وجفت عيونهم بقصص غريبة ورتيبة.
الضرر الناجم عن عدد كبير من السيناريوهات غير الاحترافية يأكل الثغرات في جيوب المنتجين وعقل المشاهد الفقير في دور السينما، وتتحول السينما المحلية إلى "حقل من المعجزات"، حيث يعتمد النجاح المستقبلي للفيلم بشكل أساسي على التخمين والافتراضات. كتابٌ يبصقون بخيبة أمل على كومة من السيناريوهات متعددة الأطنان لا غير.
من المستحيل إنشاء تحفة دون أن تكون محترفاً، لكن أين هم؟ أين كتاب السيناريو المحترفون؟ "أسأل أنا بصفتي كاتباً في المجال السينمائي ويسأل النقاد" والجواب بكل بساطة هو "يمكنك عدهم على أصابعك"، وأنا أتفق مع ذلك.
العيب الكبير في سوق السينما المغربية هو شيئان: لنبدأ بالغياب شبه الكامل للشفافية واستغلال العقول الساذجة في التجارة الرخيصة للنصوص المكتوبة، بعد كل شيء، إنشاء نص عالي الجودة شيء، والترويج له في السوق وبيعه شيء آخر تماماً. وإذا كانت النصوص ستكتب بواسطة كاتب سيناريو محترف، فيجب بيع منتوجه بواسطة وكيل محترف. خلافاً لذلك، سيشارك كاتب السيناريو، بدلاً من إنشاء الروائع الفيلمية، في الترويج للعقود وبيعها والنظر فيها ومجموعة من الأمور الأخرى التي يجب على الوكيل نفسه التعامل معها. في هذه الحالة، تنخفض فاعلية كاتب السيناريو عدة مرات، لأنه يصعب عليه التركيز على ما هو حقاً سيد فيه.
العيب الثاني من سوق الأفلام لدينا هو أنه ملوث حرفياً من قبل كتّاب سيناريو هواة، متطفلين، الذين لا يفهمون تقنيات كتابة النصوص السينمائية، ويخلقون بعبارة ملطفة، حبوباً منومة للمحررين والمنتجين. تلتصق العيون ببعضها البعض في الصفحات الأولى، وتتطاير حزمة أخرى من الورق مبللة بنص ممل في سلة المهملات.
تحدث معركة واسعة النطاق، لكنها تكاد تكون غير مرئية من الخارج، معركة بين المحترفين والهواة، معركة أولئك الذين يريدون ويمكنهم تحسين السينما الحديثة وأولئك الذين، على أمل التوفيق، يرسلون نصوصهم المملة إلى جميع استوديوهات المتاحة.
في الوقت نفسه، لا يوجد أي ترابط بين ما يكتبه الكاتب الهاوي وواقعه الذي نشأ فيه، كاتبٌ يضرب لوحة المفاتيح بهيستيريا ليكتب عن أشياء لا يعرفها، لا يعيش معها، ويسرع لإنهاء السيناريو دون جمع المواد، دون تعمق في البحث والتفكير، دون توثيق ومناقشة، دون الاستماع إلى الناس، غياب تام للمشاعر، للرسائل التي من المفترض استقبالها بارتياح ونحن نشاهد، فجوة سحيقة بين الواقع من جهة، والحوارات الطويلة مع ثرثرة دون معنى من جهة أخرى، ليحتل المنتج النهائي على صوت الشتائم وسخرية المشاهدين الذين لا يصلون مرة أخرى إلى منتصف الفيلم، لأنه منتج نهائي يكتسي حلة سطحية، بدون عمق، بدون صدى واقعي.
ما هو إذن الفرق الرئيسي بين كتاب السيناريو المحترفين والهواة؟ قد تكون هناك عدة اختلافات، لكني لن أغوص فيها، ولكن الشيء الرئيسي سيأتي دائماً أولاً – يجب أن يكون الفيلم ممتعاً، وبما أن الفيلم يبدأ بنص، يجب أن يكون السيناريو نفسه ممتعاً.
لكن ما الذي يجعل النص ممتعاً؟ ما الذي يجعلنا نرشح الفيلم للأصدقاء؟
بالطبع – قصة مثيرة، رويت بمهارة للمشاهد، تتفرج وأنت تحس بعبء أنامل الكاتب. المؤثرات الخاصة وتجسيد الشخصيات، والحوار، والموسيقى التصويرية، والممثلين هي الألوان المشرقة التي تبني بها أعمدة الفيلم. بعد كل شيء، حتى الممثل الأكثر شهرة لن يجعل فيلماً مثيراً للاهتمام أبداً إذا كان السيناريو سيئ التصميم وضعيفاً. وهذه حقيقة لها أدلة كثيرة.
تكمن احترافية كاتب السيناريو بالدرجة الأولى في قدرته على تأليف قصص شيقة، وفي القدرة على سرد هذه القصص بشكل ثابت وواضح، بحيث يبقى انتباه المشاهد على الفيلم من الثانية الأولى إلى التي تليها. وهذا ما يسمى بالفيلم المثير للاهتمام.
الناقد السينمائي المغربي
الحديث عن السيناريو المغربي يحتاج منا للوقوف على عدة نقاط مهمة، نقاط لا استطيع تشريح بعضها كوني مجرد كاتب في المجال السينمائي يسعى جاهداً إلى زيادة حمولته الثقافية حول الفن السابع، فكما ذكرت في أحد مقالاتي سابقاً أن صفة الناقد السينمائي تحتاج سنوات من الاحتكاك بالشاشة الكبيرة والغوص العميق في غياهب الفن السابع بشكل عام، لدي، كان من اللازم الأخذ برأي أحد أساتذتي الّذين أتابع كتاباتهم بفخر، وأخص بالذكر هنا الناقد السينمائي المغربي سعيد المزواري والذي أشكره على موافقته على الإجابة عن بعض الأسئلة التي وجهتها إليه بخصوص حالة السيناريو المغربي:
سألته: لماذا لا يجد السيناريو المغربي موطئ قدم بين النصوص السينمائية العالمية؟
رد علي قائلاً: لا يمكن الحديث عن سيناريو في معزل عن الفيلم. وللفيلم المغربي موطئ قدم لا بأس به في فضاء السينما العالمية. يبقى أن حضوره قد لا يوازي طموحاتنا كفاعلين وما نصبو إليه. وهذه مسألة مركّبة، تتداخل فيها كل محدّدات الصناعة منذ الكتابة إلى الاستغلال. لذا، أنا لا أوافق على من يختزلون مشاكل السينما المغربية كلّها فيما يسمونه "أزمة سيناريو"، وكأنّنا فرغنا من حل مشاكل جميع حلقات الصناعة السينمائية وتمّ تفعيلها، ولم تتبقّ لنا سوى الكتابة… وما معنى "أزمة سيناريو" أصلاً؟ يمكن أن نتحدّث عن قصور في الخلق والإبداع السينمائي بشكل عام، وينبغي النّبش وراء المسبّبات الموضوعية التي تعيق إطلاق الطاقات السينمائية وهي كثيرة ومتشعبة وتعبر بشكل أفقي كل الاختصاصات المهنية السينمائية.
- هل حقا تمتلئ الساحة السينمائية الوطنية بالكتاب الهواة المتطفلين على حرفة كتابة السيناريو؟
- تتسم السينما المغربية بغلبة تيار سينما المؤلّف المعتمد على دعم المركز السينمائي المغربي، حيث يكتب المخرجون في الغالب أنفسهم سيناريوهات أفلامهم، وهذه مسألة تنطوي على امتياز مهم، لأن أوّل مؤهّل للعبور بنص مكتوب للسينما من لغة الحروف إلى مفاتيح الصورة والصوت هو المخرج-كاتب السيناريو نفسه (من بين 10 أفلام اختارها نقاد في استطلاع رأي لأفضل الأفلام المغربية في العشرية المنصرمة 9 كتب لها المخرجون أنفسهم السيناريو… وحده "يا خيل الله" كتبه ماحي بينبين انطلاقاً من روايته وأخرجه نبيل عيوش)… في الواقع هي ليست مسألة سيئة أو جيدة في حد ذاتها، وتختلف نتائجها من حالة إلى أخرى. فكما يمكن أن يتمتّع المخرج بموهبة ورؤية خلاقة وخيال خصب وأدوات معرفية ودرامية وجمالية مقنعة لكتابة نص جيد. يمكن أن يفتقد بعضاً من هذه المقومات أو جلّها، فيأتي السيناريو الذي يكتبه مفتقراً للعمق والدّلالة المرغوبين. وفي غياب حظيرة قاعات سينما كافية لتجعل من شباك التذاكر الحكم الأبرز في تحديد الغثّ من السّمين وإطلاق دينامية إنتاج برؤوس أموال خاصة تتحرّى الأفضل لكلّ مهنة بما في ذلك السيناريست، وتخلق بقوة الأشياء تقاليد احترافية وتراكماً كمياً ونوعياً في هذا المجال، يتعذّر على السينما المغربية إنجاب عدد كافٍ من محترفي كتابة السيناريو، وتظلّ الكتابة للسينما محض اجتهادات متقطّعة ومعزولة ومتفاوتة النتائج يختلف عطاؤها بحسب التجارب والأزمنة كما تختلف المحاصيل من سنة إلى أخرى.
- ماذا تقترح أو ما هي رسالتك لكتاب السيناريوهات المغاربة؟
- كتابة السيناريو عملية إبداعية معقّدة تحتاج إلى موهبة أوّلاً، ثمّ نفس طويل وتكوين مرجعيات متينة على مدى سنوات من المشاهدة والنقاش والدّراسة والتّدريب والممارسة. والمقصود مرجعيات سينمائية وفلسفية وأدبية ومسرحية وتشكيلية وفنية غنية ينبغي الاشتغال عليها بالتّحصيل والتكوين والصّقل والاحتكاك منذ مراحل السن المبكّرة. ولا ينبغي أن نتحدّث عن كتابة السيناريو وكأنها محض غياب إرادة فردية أو سوء فهم كما يتوهّم البعض أثناء تناول هذا الموضوع. الرفع من مستوى الكتابة السينمائية بالمغرب يقتضي فتح النقاش حول غياب السينما والفنون بصفة عامة في المقررات الدراسية الذي يتسبب في مشاهد عبثية من قبيل طلبة يلجون مدارس عليا لدراسة السينما من دون أن يشاهدوا ولو نزراً يسيراً من عيون السينما العالمية أو المغربية، ومن دون أن تطأ قدم أغلبهم قاعة السينما… يستحيل إنجاز طفرة سينمائية نوعية من دون تحقيق عملية التأثير والتأثّر بين الأجيال السينمائية في المغرب والتراكم الكمي والإبداعي الرهين بإنضاج التفاعل والتلاقح بين مختلف التجارب… يستلزم هذا كذلك الحديث عن ما مدى حضور الثقافة السينمائية في الإعلام وحيوية الخطاب النقدي والتحليلي المرافق للأفلام وما مدى جودته ووسائل طبعه وتوزيعه أو توفيره رقمياً للدّارسين، وأي عناية يلقاها السينمائيون الهواة للحصول على دورات تكوينية لصقل مواهبهم… وهذه أشياء خبرت النقص والتقصير المهول الحاصل فيها بالمغرب سواء من خلال اشتغالي كناقد، أو المسؤولية التي أتولاها في مكتب الفيدرالية المغربية لسينما الهواة أو من خلال مبادرة إدماج السينما في المقررات الدراسية التي أشرفت على إطلاقها برفقة الصديق المخرج عبدالسلام الكلاعي قبل بداية الجائحة.
في النهاية، أقول إن الملايين من الأموال المستثمرة في المشروع لا تضمن أن المشاهدين سوف يتجمعون في شباك التذاكر ويملأون دور السينما حتى آخر مقعد. وحتى حقيقة أن الفيلم مأخوذ من كتاب مشهور لا يضمن نجاحه بنسبة مئة بالمئة. وهناك أمثلة كثيرة جداً على الأفلام التي فشلت فشلاً ذريعاً في شباك التذاكر العالمي والمحلي، والتي تستند إلى قصص وروايات معروفة، لأن في نسختها الحية، رويت مكتومة وبشكل غير مفهوم.
ستستمر المعركة بين المحترفين والهواة لفترة طويلة. شظايا القذائف التي يتم إطلاقها من بنادق الهواة ستحدث ثقوباً كبيرة في أعمدة الفن السابع، ولكي تكون هذه المعركة على الأقل غير مؤلمة لصناعة السينما لدينا، نحتاج أخيراً إلى فهم شيء واحد: لن يتم إنقاذ السينما المغربية من خلال إضافة المؤثرات الخاصة أو ميزانيات بملايين الدراهم، ولكن من خلال سيناريوهات رائعة تستند إلى قصص رائعة. وفقط عندما يفهم قادة صناعة الشاشة الكبيرة لدينا هذا أخيراً، ستبدأ السينما المحلية لدينا في اكتساب شعبية سريعة في جميع أنحاء العالم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.