من الواضح جداً أن قواعد اللعب بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، لم تعد تدار بالطريقة ذاتها زمن باراك أوباما، ولا يمكن لها البتة أن تستمر على مفردات السياسة التي تبناها ترامب، فالمؤشرات الأولى للسياسة الأمريكية تجاه إيران، تثبت عناصر التقاطع والتباين مع سياسة أوباما، فمن جهة، ليس هناك أي تغيير على مستوى الرهان على وحدة الجسم الخليجي، وتشكيل كتلة خليجية مدعومة أردنياً ومصرياً ومغريباً، تضع السياسة الإيرانية في المنطقة في دائرة الشجب بحجة تهديدها للأمن القومي الخليجي، لكن من جهة أخرى، ثمة اختلاف في إدارة ملف التفاوض حول الملف النووي، فواضح أن سياسة بايدن تريد أن تكون سلة المفاوضات مفتوحة على الملفات الثلاثة، بما في ذلك الملفان اللذان ترفض إيران بقوة إدراجهما تحت أي مفاوضة، أي نفوذها الإقليمي وبرنامج الصواريخ الباليستية، وتكتفي بوضع البرنامج النووي الإيراني في مقابل رفع الحصار الشامل عن طهران.
واشنطن تدرك أن الوصول إلى هذا الهدف، أي وضع إيران في دائرة الضغط حتى تقبل بالتفاوض على الملفات الثلاثة، يتطلب نهج سياسة إقليمية، تحقق مكاسب حقيقية على الأرض، وتقلص نفوذ إيران في مجالها الحيوي، حتى تضعها أمام واقع يلزمها بالتفاوض على نفوذها الإقليمي.
سياسة إيران مكشوفة، فهي تملك أوراق اعتماد على الأرض، في العراق وسوريا واليمن ولبنان، فضلاً عن امتلاكها أوراق أخرى مؤثرة على الأمن الخليجي، لا سيما الكويتي والإماراتي والسعودي، وفوق هذا وذاك، فإن نفوذها الإقليمي في لبنان لا يزال على حاله، رغم الأزمات السياسية المتتالية التي تعرفها البلاد ورغم محاولات جر حليفها في لبنان (حزب الله) لمنطقة الالتباس والحرج.
المؤشرات الأولى التي برزت في سياسة أمريكا، تعطي صورة أولية عن تكتيكاتها في التفاوض مع إيران، فبعد فك الأزمة الخليجية، جاءت الخطوة الثانية، في مبادرة سعودية لوقف إطلاق النار في اليمن، لوضع الحوثيين في دائرة الحرج أمام المجتمع الدولي، فقد تضمنت هذه المبادرة نقاطاً مهمة، لم تكن مدرجة من قبل من الروزنامة السعودية ولأول مرة يتحدث وزير الخارجية السعودي عن فك الحصار عن مطار صنعاء وعن ميناء الحديدة ولو لمحاور محددة، وهو المطلب الذي كان الحوثيون يعلقون عليه رفضهم لكل مبادرة تصدر من السعودية لطي ملف الصراع، ووقف إطلاق النار، وإنهاء المأساة الإنسانية في اليمن.
المؤشر الثالث، بدأ مبكراً، مع السياسة التي انتهجها رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، الذي قام بعدد من التكتيكات السياسية للتحلل من الضغط الإيراني، ومحاولة إضعاف سطوته، وبناء شرعية الدولة في مقابل شرعية الميليشيات التابعة لإيران.
إيران أبدت أكثر من مرة انزعاجها من السلوك السياسي للكاظمي، وأبلغته رسائل متعددة بأن سياسة واشنطن في العراق ستنتهي ببغداد إلى الفوضى، ورغم الزيارات المكثفة التي قام بها لطهران للتهدئة، إلا أن طهران تنظر لسياسته بحذر شديد، وترفض أن يمارس تكتيك الضغط على أمريكا من أجل بناء شرعية الدولة على حساب شرعية وقوة الميليشيات التي تعتبر التعبير السياسي عن نفوذها في بغداد.
في لبنان، لعبت الأزمة السياسية والاقتصادية التي ضربت لبنان، فضلاً عن تفجيرات مرفأ بيروت وما تلاها من احتجاجات اللبنانيين، دوراً كبيراً في تراجع نفوذ حزب الله، وساهم وجوده في سوريا في تخفيض أجندة المقاومة في الجنوب اللبناني، مما أضعف الورقة المهمة التي كانت تبني شرعيته السياسية.
نقطة التحول التي أثرت سلباً في النفوذ الإقليمي الإيراني، هو سياسة تركيا في كل من سوريا والعراق وأيضا لبنان، فقد أحدثت تركيا تغييرات مهمة في تصورها لمنظومة أمنها القومي، ودخلت على خط التماس مع إيران في سوريا، وشكلت المنطقة العازلة، وساهم وجودها في المنطقة في إرباك السياسة الإيرانية في المنطقة، كما كان لدخول تركيا على خط الأنظمة في بيروت، تأثير كبير على فعالية السياسة الإيرانية في بيروت، فلم يعد الأمر يتلخص في صراع نفوذ سعودي مع نفوذ إيراني في بيروت، ولكن دخل على الخط تقدير آخر، من المرجح جداً أن يربك السياسة الإيرانية في بيروت، وربما حتى في اليمن ومناطق أخرى.
فلا شك أن تحول الإدارة الأمريكية، سيدفع تركيا إلى تغيير سياستها بالكامل مع السعودية، وذلك لمقاومة الضغط الأمريكي المزدوج على البلدين، فأمريكا تعلم أن ثمن تفاوضها مع إيران ستدفعه السعودية باهظاً، وسيكون على حساب مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، بل على حساب أمنها القومي، لا سيما أن أمريكا في عهد الديمقراطيين كانت دائماً تستثمر الملف الحقوقي للضغط على السعودية وابتزازها سياسياً ومالياً، أما تركيا فهي تدرك أن سياسة بايدن في التعامل مع تركيا ستكون مختلفة عن سياسة ترامب، وأنها ستتجه إلى تقليص نفوذه الإقليمي في المنطقة.
ولذلك، لن تكون هناك خيارات كثيرة بالنسبة لتركيا والسعودية سوى بالاشتغال على إعادة تقييم العلاقات وبنائها على قواعد مصلحية جديدة، تضطلع فيها تركيا بدور أمني وعسكري يساعد دول الخليج على تحصين أمنها القومي، وتكسب من جراء ذلك، إنعاش اقتصادها والتحلل من الضغوط الأمريكية التي كانت بعض دول الخليج أدوات في تنفيذها.
في المحصلة، وبالنظر إلى تفاعل هذه السياسات في المحيط الإقليمي، ستكون قوة إيران مكبلة، لأنها لم تستطع في السياق الحالي فعل الكثير مما كانت تفعله باستغلال أذرعها الإقليمية للضغط على أمريكا لإبرام اتفاق نووي وفقاً لمنظورها الخاص على حساب المصالح الخليجية في المنطقة، بل حتى على حساب المصالح الإسرائيلية أيضاً.
سيكون من الصعب سياسياً وعسكرياً بالنسبة إلى إيران أن تستمر في دعم الحوثيين خارج العملية السياسية، فعدم قبول المبادرة السعودية، والاستمرار في سياسة استهداف أمنها القومي، يمكن أن يدفع تركيا للدعم العسكري والأمني، واستعمال كل ما تملك من تطور تكنولوجي في المجال العسكري لدعم القدرات السعودية لإضعاف الحوثيين، كما سيجد الحوثيون أنفسهم أمام محيط دولي وإقليمي مناهض لهم ولإيران، بعد أن تتكسر شرعية مطالبهم بمبادرة وقف إطلاق النار.
إيران كانت تنتهج خيارين في الضغط على أمريكا والأوروبيين للعودة إلى الاتفاق النووي: استعمال نفوذها الإقليمي، واستمرارها في تطوير برنامجها النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية.
اليوم، سيكون من الصعب عليها أن تدير بكفاءة أذرعها الإقليمية بنفس الطريقة التي كانت تقوم بها في السابق، وسيكون أيضاً من الصعب أن تلعب بورقة التصعيد بالاستمرار في برامجها النووية والتسلحية، وأقرب السيناريوهات أن تتجه إيران إلى خفض مستوى سقفها السياسي في التفاوض بقبول منطقة وسط، تكسب بها جزئياً رفع الحصار في مقابل عودة إلى الاتفاق النووي، مع دفع بعض الأطراف الإقليمية لتهدئة الجبهة، والانخراط في حل سياسي تتوارى فيه الأذرع الإقليمية الإيرانية عن التصدر بشكل مؤقت، ريثما تتغير الشروط الإقليمية والدولية وتنضج شروط الاستثمار من جديد في تقوية نفوذها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.