لأنه لا بُد أن يقال شيء ما، لأن هناك حدثاً علينا أن نواكبه، لأن الصمتَ وإن كان الأبلغ، فإنه حيلة العجَزة عن الكلام، ونحن لسنا عاجزين عن الصراخ، كل ما في أيدينا هو القلم، وكل ما في حلوقنا هو الحنجرة بجوار الغُصة، وكل ما في صدورنا نار نكتب برمادها شيئاً ما، يشهد ذات يومٍ على المأساة، ويقسم بالله إننا كنا هنا، نشاهد ذلك الفيلم المرعب، ونسمع الصوت المريع، ولا نملك إلا الصراخ، لأن الذي يُهرَس بين قطارين لن يخبرك برأي سياسي ولا حل تقني، وإنما فقط، بأعلى ما في صوته، سيصرخ.
أنا الآن قبل المأساة يا سيدي، أتخيل حضن أمي فور رؤيتها لي، بعد شهور طويلة قضيتها في الجيش، أتخيله على بُعد دقائق من الآن، على بُعد ساعات في أطول الأحيان، وليس أبعد من ذلك مهما كان بطء الجرّار.
أتبادل الضحك مع الذي بجواري، أعطيه لقمةً ويعطيني لقمة، يناولنا أحد المارّة كوباً كرتونيّاً فيه شاي، أشربه وأتخيل شاينا يا سيدي، شاي الصعيد، وأقول: "ما هذا الذي بين يديّ؟ ميّة بسُكر؟!"، قريباً سأكون في حضن الحاجّة، وجوار الحاجّة أشرب كوباً من الشاي الثقيل الذي يكيّف الدماغ، ويمحو مرارة أيام الجيش من الذاكرة.
أنا الآن أنظر من الشباك، بساط أخضر لا ينتهي، وأفق مفتوح لا آخر له، وشمسٌ حاضرة بكامل قوّتها، وبيوت تظهر وتختفي كل ثوانٍ، وصوت العجلات يتشابك مع صوت المؤذن القادم من المسجد الذي يقطعنا صوته، ونقطَع صوته، وأتخيل أبويا الحاجّ في مسجد كأحد هذه المساجد، في بلدنا، خلف هذه الحقول، يصلي السُّنّة والإمام يخطب، ويسمع الخطبة الثانية والإمام على وشك الإقامة، ويسجد ويدعو، وينالني من لسانه دعاء حلو، يُيَسر لي الطريق ويختصر عليَّ المدة.
أنا الآن في كُرسيّ، وفي الكرسي المقابل سيدة في عمر أمي، لها الضحكة نفسها كأنها فولة وانقسمت نُصّين، ولها صوت حَنون مثلها، ولها عُمر قاسٍ يظهر في ملامحها، وطبعٌ رقيق يظهر جليّاً في عينيها، تحكي لي بلا مقدماتٍ عن زيارتها لابنتها المتزوجة في الإسكندرية، تعطيني "قُرصة" من التي في حمولتها، وتقول: "بالهنا على قلبك يا ولدي"، أقول: "زيّ العسل يمّا"، وتقول: "والنبي أنت اللي زيّ العسل". وأنا بكل هذا جزءٌ من حوار دائم مقيم في قطار الغلابة، أنا مجرد حلقة في سلسلته المليونية التي لا تنتهي ما بقي المصريون.
تحكي لي عن شوقها إلى ابنتها، إلى حضنها حين يمتلئ بها، إلى حفيدها واسم الله عليه النبي حارسه وضامنُه، وتريني اللعبة التي أحضرتها له، اشترَت له قطاراً بلاستيكيّاً يعمل بالبطارية، فأقول: "جميل يمّا سلَّم يدك"، وتقول:" تسلم لي يا ولدي"، ولا أشعر إلا بأمي أمامي، ولا تشعر السيدة إلا بابنها، كل شيء يتم اختصاره في هذه المقاعد من الدرجة الثانية، ما دمنا جميعاً ولاد تسعة، نركب منذ وُلدنا قطار الدرجة الثانية.
يزداد الشوق كلما علا صوتُ العجلات على القُضبان، وأشعر بأنها طَبلة انطلاق الأولمبياد، طلقة بداية الماراثون، سألتقي أمي ولو رأيتموني وأنا أجري نحوها لَراهنتم عليّ في سباق أحصنة، ولا شيء يدب الروح في القدمين أكثر من وجه أمي، شهور باقية وأكون بجوارك دون مغادرة، أعمل نصف اليوم وأرجع، أعمل طوال اليوم وأرجع، أتزوج وأنجب، وأرجع، منكِ كانت البداية، وإليك نهاية كل شيء.
نهاية كل شيء، الآن، أنا في فاصل بين الحياة والموت، حادث وأي حادثٍ ذلك؟ تصادم؟ حريق؟ لا أعلم، أعرف فقط أنني ألتقط أنفاسي الأخيرة، صدمة فوق رأسي، كدمة في جسمي، ارتجاج في مخي، كسور في كل فقرة من عظامي، لا أعرف بمَ أشعر، ولا أدري ماذا حدث، ما أعرفه باختصار أنني لا أعرف الآن إلا الموت، ولا أجهل الآن إلا الحياة.
أمي، أبي، الشاي، السيدة التي أمامي، كل شيء الآن تبخر، كل لونٍ ضاع تحت الأحمر القاني، ها هي دمائي تسيل مجدداً، سمعتُ من أهل بلدي من قبلُ عن قطار الصعيد، والآن كل شيء يتكرر، المأساة تحدث من جديد، والكارثة تعلن عن نفسها، وأنا اليوم لست متفرجاً، ولا قريب أحد الضحايا، أنا بطل هذا المشهد، أنا ضحيته، أنا جزء من الفاجعة.
"إحنا رخاص قوي يا بوي"، خلاصة هذا الفيلم البايخ، ذلك الهزار التقيل، الذي لا يتورع عن تجربة الحكاية نفسها معنا كل مرة، لا نملك في جيوبنا ثمن تذاكرنا، لأننا دفعناه بالفعل وليس بوسعنا غيره، ولا نملك في أعمارنا ما يسع كل هذه الأقدار، ولا نملك أمام الموت إلا الرضا والصبر، ولا نملك أمام الله إلا أن نخبره بكل شيء.
لأن قطار العاصمة الجديدة يستحق ما لا يستحقه قطار مصر كلها، ولأن أعمار الناس ليست أولى من وديعة في البنك، ولأن ثمن الروح مئة ألف جنيه أو مليون جنيه حتى، ولا تساوي الروح روحاً من أمثالهم، ولأننا غلابة جداً، لا نساوي أبداً حذاء الوزير، ولا تساوي أحلامنا وهمومنا همّاً واحداً مما يحمله هؤلاء الكبار على الكراسي والعروش.
الآن أرحل، وأغادر، لأن آخرين لا يودون المغادرة، وإن كان لا بد من تغييرٍ ما، فإن تغيير المواطن أوْلى، وإن كان من موتٍ ضروري، فإن مصرعي بين حطام قطارين أخفّ وطئاً من أي موتٍ آخر، وإن كان لا مفرّ من الصراخ فليكن صراخي أنا، بالصوت نفسه، المتكرر منذ قطار الصعيد قبل تسعة عشر عاماً، ومنذ عبّارة السلام، ومنذ ستاد بورسعيد، ومنذ ستاد الدفاع الجوي، ومنذ حريق محطة مصر، ومنذ اليوم، وإلى أيام أخرى، نتأكد من أحداثها، أننا بالفعل "رخاص قوي".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.