منذ مدة وبعض "الأطراف" السياسية المغربية تسعى إلى جر المؤسسة الملكية إلى معترك التنافس السياسي، لحمل الملك على اتخاذ قرارات لصالحهم من خلال تقديم قراءة "عرفانية" لمضامين "دستور 2011″، بعدما عجزوا عن فرض وجودهم عن طريق الانتخابات والآليات القانونية والديمقراطية المتبعة.
وقد تجلى ذلك بوضوح في التأويل "الباطني" لأحكام الفصل 47 من الدستور خلال "البلوكاج" لضرب أهم مكتسب جاء به، وهو ربط صناعة القرار بصناديق الاقتراع، رغم أنه -أي الدستور- نص بشكل لا يقبل أي تأويل على تعيين الملك لرئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب.
هذه "الخفة" من طرف أصحاب تلك "الدكاكين الانتخابية" قابلها لحسن الحظ "ثقل" ورزانة المؤسسة الملكية التي أصبح سقفها الديمقراطي أعلى بكثير من سقف أرباب تلك الدكاكين. ولذلك حرص الملك على الانتصار لمنطوق وروح الدستور، وعيّن الشخص الثاني في حزب العدالة والتنمية رئيساً للحكومة بعد إعفائه لرئيسها المعين عبد الإله بنكيران، مؤسساً بذلك عرفاً دستورياً وقاطعاً الطريق أمام أي انحراف عن المنهجية الديمقراطية.
اليوم، ومع الأسف، فرض هؤلاء تغيير قواعد اللعبة بأساليب غير ديمقراطية، وبعيداً عن منطق التوافق الذي طالما طبع مرحلة الإعداد والاستعداد للانتخابات، قامت سبعة أحزاب من الأغلبية والمعارضة بإدخال تعديلات على مشاريع القوانين التنظيمية المؤطرة للعملية الانتخابية تستهدف ضرب ما تبقى من مصداقية لصناديق الاقتراع. رغم أن وزير الداخلية رفض تلك التعديلات، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن مصير ميثاق الأغلبية الذي ينص على دعم الخيار الديمقراطي ومبادئ دولة الحق والقانون.
وحتى لا نتحول إلى مجرد منديل لتلميع صورة أي جهة، نؤكد أن ما وقع مجرد مسرحية تبادل فيها اللاعبون الأدوار فيما بينهم. ولمزيد من التوضيح، فقد غير المتحكمون من أساليبه وأدواته فقط. فبدل التدخل الخشن في العملية الانتخابية عبر المتابعات الكيدية وترهيب المترشحين وسرقة صناديق الاقتراع وغيرها من الأساليب المعروفة، وبعدما لم تجدِ "المنشطات الانتخابية"، تم اللجوء إلى أساليب ناعمة للتحكم المسبق في تلك النتائج، بتوظيف أذرع حزبية لتغيير قواعد اللعبة بشكل "ديمقراطي"، واستعمال أذرع إعلامية للتغطية على هذه الفضيحة وتبريرها.
عملياً، هناك مدخلان لكبح هذا العبث. يتمثل الأول، في تفعيل الفصل 95 من الدستور الذي ينص على إمكانية طلب الملك من كلا مجلسي البرلمان القيام بقراءة كل مشروع أو مقترح قانون قراءة جديدة. وهو الفصل الذي ينسجم مع فصول أخرى، كالفصل السادس الذي ينص على أن دستورية القواعد القانونية من المبادئ الملزمة. والفصل 42 الذي ينص على أن الملك يسهر على احترام الدستور، فضلاً عما ورد في ديباجته وفصول أخرى من تعزيز دولة الحق والقانون.وهذا ليس طلباً لـ"حمائية ملكية" ضد فرقاء سياسيين، بل إنه يدخل في صميم اختصاصات الملك التشريعية.
المدخل الثاني، هو المحكمة الدستورية التي ستكون أمام امتحان القرن. فقد نصت الفقرة الثالثة من الفصل 85 على أنه "لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذ القوانين التنظيمية، إلا بعد أن تصرح المحكمة الدستورية بمطابقتها للدستور". إن هذا الإصرار من طرف المشرع الدستوري على ضرورة عرض القوانين التنظيمية على المحكمة الدستورية قبل إصدار الأمر بتنفيذها يعكس مدى أهمية هذه القوانين باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الكتلة الدستورية. وبالتالي حرصه على أن تبقى في نفس مستوى القواعد الدستورية المؤطرة لها، حتى يبقى لهذه الوثيقة معنى.
المسألة ليست مرتبطة بمن سيفوز بالانتخابات المقبلة أو من سيخسر، فالديمقراطية التي ندافع عنها لا تعني شيئا آخر غير التداول السلمي للسلطة. إن الأمر أعقد من ذلك بكثير، فقد أصبح البعض يتخذ من مصلحة الوطن مبرراً لوضع العصا في عجلة الانتقال الديمقراطي، ومن هذه المصلحة -في نظرهم- أن دولاً "صديقة" لا تريد أن يسيّر حزب العدالة والتنمية الحكومة لولاية ثالثة، وكأننا دولة بلا سيادة.
هذه أكبر إساءة للوطن، فالمغرب وقف نداً لندّ أمام دول لها وزنها على الصعيد العالمي عندما مست سيادته ووحدته. ولذلك نذكر هؤلاء، بأن مصلحة الوطن الحقيقية تقتضي الاستمرار في المسير على هذا الطريق الذي شققناه بأنفسنا رغم كل تلك الصعاب والتحديات حتى أصبحت التجربة المغربية نموذجاً متفرداً في المنطقة على مختلف الأصعدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.