توترت العلاقات السعودية-التركية خلال فترة إدارة ترامب كما لم تتوتر من قبل، فمن ناحية دعم المحور السعودي الإماراتي للثورات المضادة والاحتفاء بمحاولة الانقلاب الفاشلة في ٢٠١٦، والتحركات المتناقضة في ليبيا والتحول من النقيض إلى النقيض بدعم النظام السوري. ولم يكن ينقص هذا التوتر قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بالطريقة البشعة التي تمت بها الجريمة بالقنصلية السعودية في إسطنبول، والتي كانت إحدى أسوأ خطايا النظام السعودي بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان ووترت علاقته بواشنطن وعواصم أوروبية أخرى. لكن الضرر الأكبر وقع في العلاقات السعودية مع تركيا التي اعتبرت ارتكاب الجريمة على أراضيها عملاً عدائياً وضد سيادة الدولة التركية ومن ثم تم تصعيد حدة الخطاب التركي المناوئ لولي العهد السعودي ما ساهم إلى حد كبير في أن تتحول القضية لرأي عام عالمي مناوئ للسعودية.
عقب سقوط ترامب الذي عول عليه محمد بن سلمان والنظام السعودي كثيراً سواء كحليف في مواجهة إيران أو روسيا في حرب أسعار النفط، التي قادتها المملكة برعونة محكمة أدى لخسارتها وحلفائها في منظمة الأوبك مئات المليارات من الدولارات.
وعقب تصدع التحالف الذي تقوده في اليمن، فإن السياسة السعودية بدت بحاجة أكبر لمراجعة سياساتها وتحالفاتها في المنطقة وتخفيض حدة التوتر مع منافسيها الإقليميين.
استدعاء تركيا في اليمن.. دعوات شعبية واستجابة محدودة
منذ عدة أشهر وتحديداً في يونيو/حزيران الماضي انتشرت دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي من صفحات وشخصيات يمنية لتركيا بالتدخل لحلحلة الأزمة في اليمن، خصوصاً بعد الانتصارات التي حققتها حكومة الوفاق المدعومة تركياً في ليبيا. فما أحدثه ذلك الانتصار من توازن عسكري قاد في النهاية لدفع العملية السياسية والمفاوضات وفرضها كبديل للخيار العسكري الذي حاول الجنرال خليفة حفتر وداعموه فرضه على مدار سنوات بعمليات عسكرية ممتدة ومكلفة دون نجاح يذكر. وصادفت تلك الدعوات تراجعاً تركياً عن دعم التحالف العربي في اليمن، وتصدعاً في التحالف الذي تقوده السعودية، مع ارتفاع وتيرة التنافس الإماراتي-السعودي على مناطق النفوذ في اليمن والتي قادت لخسائر فادحة للطرفين وخسائر لا يمكن إحصاؤها لليمنيين أنفسهم، ارتدت على الدولتين بضغوط دولية لوقف الحرب واعتراف أمريكي أوروبي بالوضع الراهن الذي فرضه الحوثيون على كارثيته.
كان جوهر هذا الخلاف بين السعودية والإمارات هو محاولة الاعتماد السعودي على قوى الإصلاح اليمني وهي التعبير المحلي في جزء منه عن حركات الإسلام السياسي والحركات الاحتجاجية العربية التي تخوض الإمارات حرباً شعواء ضدها منذ عقد وتعتبرها عدواً استراتيجياً، بينما تمتلك السعودية رؤية براغماتية في التعامل مع تلك الحركات وتراها طرفاً يمكن التحالف معه في الحالة اليمنية لهزيمة الحوثيين أو إجبارهم على التفاوض، رغم رفضها لهم وتحالفها ضدهم في حالات أخرى، وبالذات في مصر.
لكن تلك الدعوات وفقاً لبعض التحليلات تغفل تعقيدات الوضع في اليمن واختلافاته الجوهرية عن الوضع الليبي. فالحكومة الشرعية في اليمن تعمل من الرياض وتواجه تحدياً مزدوجاً من قبل الحوثيين من ناحية ومن قبل المجلس الانتقالي الجنوبي المصنوع والمدعوم إماراتياً من ناحية أخرى. أضف إلى ذلك وجود وضع إنساني واقتصادي مزرٍ لا تملك فيه الحكومة اليمنية ما تقدمه لحلفائها غير وعود المشاركة في إعادة الإعمار التي لن تبدأ قبل إنهاء الحرب، كما أنه لا يتصور القيام باختراق في اليمن بدون تنسيق حقيقي مع السعودية أو أطراف أخرى.
كما أن الجهود الإنسانية والإغاثية التركية الواسعة في اليمن ووجهت وفق تقارير باستهداف إماراتي غير مباشر لمسؤولين في جهات إغاثية تركية. ولقد شهد العام الماضي محاولة اغتيال المسؤول المالي في مكتب الهلال الأحمر التركي باليمن "علي جان يودك"، بإطلاق مجهولين النار عليه. ووقعت محاولة الاغتيال في مدينة عدن التي تسيطر عليها ميليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعومة من دولة الإمارات. صحيح أن الدولتين، أي الإمارات وتركيا، في حالة صراع سياسي ناجم عن إقحام الإمارات نفسها بقوة في الشأنين الليبي والسوري البعيدين نسبياً عنها، لكن المنطقة لا تحتمل ساحة صراع جديد بينها قد تزيد التوازنات الهشة في المنطقة اختلالاً.
لكن يمكن لتركيا بالتعاون مع الدول المعنية بالشأن اليمني، أن تُحدِث اختراقاً ومساعدة على بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة وتقديم ضمانات للأطراف باعتبارها وسيطاً محايداً في هذا الصراع إذا ما أرادت التدخل بالصيغ الدبلوماسية دون العسكرية.
الاختراق التركي لليمن
في السابع من مارس/آذار الجاري أعلن الحوثيون عن إسقاط طائرة تجسس مقاتلة من نوع كاريال تركية الصنع تابعة لسلاح الجو السعودي أثناء قيامها بمهام عدائية في أجواء منطقة المرازيق في محافظة الجوف اليمنية. وفي السادس عشر من الشهر نفسه صرح الرئيس التركي بأن السعودية طلبت شراء طائرات مسيرة من أنقرة، وهو ما يعد خرقاً في العلاقات المتوترة منذ فترة.
إذا حاولت تركيا توسيع نفوذها في اليمن فإنها لن تجد فرصة أفضل من الحاجة السعودية لتعزيز أسطولها من الطائرات المسيرة، والتي يبدو أن الحوثيين يتفوقون فيها على الطرف السعودي وقد استخدموها في اختراق الأراضي السعودية وتنفيذ أخطر هجماتهم ضد المواقع النفطية السعودية، ما كبد الأخيرة خسائر اقتصادية فادحة. وقد يأتي ذلك الاختراق التركي في وقت توترت فيه علاقة السعودية بالإدارة الأمريكية الجديدة عقب الإفراج عن تقرير وكالة الاستخبارات الأمريكية والذي يدين ولي العهد السعودي ومسؤولين سعوديين كباراً في قضية اغتيال جمال خاشقجي، وتعهد الإدارة الجديدة بوقف الدعم العسكري للتحالف العربي في اليمن، وبعد الإدانات الأوروبية للحرب في اليمن والتي قد تؤثر على الإمدادات العسكرية الغربية للسعودية فإن الأخيرة تبدو بحاجة قوية لتنويع مصادر سلاحها.
يؤكد هذا الرأي الصفقة التي عقدتها السعودية العام الماضي مع شركة "فيستل" التركية للصناعات الدفاعية بقيمة 200 مليون دولار، وذلك في إطار التصنيع المشترك لطائرات مسيّرة من طراز "كاريال"، والجولات المكوكية لوزير الخارجية التركي في الخليج والتي قد تشير لوساطات أردنية وعمانية وكويتية لمصالحات بين تركيا والرياض، ومحاولات الأخيرة نقل وتوطين تكنولوجيا المسيرات بها.
يمكن لتركيا تعزيز نفوذها في اليمن بشكل غير مباشر عبر التنسيق مع السعودية عسكرياً ودبلوماسياً، لكن مثل هذا التدخل قد يؤدي إلى مشكلات في العلاقات الإيرانية التركية الفاترة أصلاً، ويوسع ساحة اختبار تلك العلاقات وقدرة البلدين على التنسيق. فإيران تتبع منهج "القوة الخشنة" في تدخلاتها في المنطقة وتقود تصعيداً محسوباً في اليمن وسوريا ولبنان والعراق عبر خليط من الميليشيات المحلية والاستثمارات وإدارة طرق التجارة على نحو أكثر مما تقوم به تركيا، استطاعت من خلاله توسيع نفوذها بالمنطقة إلى حد غير مسبوق. كما أنها تملك صناعات دفاعية جيدة إلى حد ما ونقلت بعضها للحوثيين، وهي تقنيات تمكنها من استهداف تلك المسيرات وتحدي النفوذ التركي هناك بقوة، ما يجعل العلاقات بين البلدين عرضة لتوتر أكبر.
الخلاصة
لكن تبقى احتمالية التدخل التركي العسكري باتفاق وتحالف مع السعودية قائمة خاصة مع التحديات الكبرى التي تواجهها الأخيرة عبر الاستهداف الحوثي المكثف لمواقع نفطية واستراتيجية داخل المملكة.
ويبقى تحسن العلاقات التركية السعودية رهيناً لتطورات العلاقات التركية مع كل من الإمارات ومصر، وبالذات الموقف الإماراتي المتعصب من تيارات الإسلام السياسي وحركات الاحتجاج في المنطقة العربية ومحاولات سحبه على مجمل العلاقات الإقليمية. فيما تحاول تركيا تفكيك هذه المعضلة لحلحلة أزماتها مع حكومات المنطقة والتي يبدو أن تركيا تسير فيها بشكل تكتيكي ثنائي، قد ينجح على حساب التنسيقات الإقليمية الأخرى.
قد يضمن التدخل العسكرى النصر لطرف على آخر، لكنه لا يضمن النفوذ بالضرورة، خاصة أن التدخلات العسكرية في المنطقة العربية تخلف ضحايا بعشرات الآلاف ومآسي إنسانية، وليس فيها نصر سهل أو سريع، وهو ما قد يفقد الطرف التركي ما كسبه من نفوذ عبر العمل الاقتصادي والإغاثي والإنساني، لذا يبقى التدخل غير المباشر والتنسيقي خياراً أفضل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.