هكذا أصبحت بعد 7 ملايين قتيل … كيف يستلهم العراق التجربة الألمانية للنهوض بعد الحرب؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/23 الساعة 09:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/23 الساعة 13:37 بتوقيت غرينتش

يعتقد أغلب العراقيين أن أسوأ حدثٍ أصابهم خلال القرن الحالي هو الاحتلال الأمريكي لبلدهم عام 2003 والذي أسقط النظام والدولة وجر البلاد إلى كوارث اجتماعية واقتصادية وسياسية ما زلنا نعيش مرارتها، الكثيرون منهم يعتقدون أن الأمريكان جاؤوا لامتصاص خيرات البلد وتقاسم ثرواته مع باقي القوى الإقليمية والدولية وحبك المؤامرات ضد العباد وتقسيم البلاد، ولا تخلو أغلب هذه الاتهامات من صحة، ولكن (مؤمنو نظرية المؤامرة) هؤلاء يتغافلون عن أحداثٍ أشد دماراً في التاريخ المعاصر مرت بها دول أخرى وتعافت منها خلال سنين قليلة، وأوضح تجربة ومثال يمكن الاستشهاد به هو وضع (ألمانيا) بعد الحرب العالمية الثانية.

لا تستعجل – عزيزي المعترض – برفضك مقارنة العراق بألمانيا، اصبر معي قليلاً لأسرد لك بالأرقام كيف خرجت مهزومة من الحرب منتصف عام 1945:

– أكثر من 7 ملايين قتيل ألماني من المدنيين والعسكريين (حوالي 9 % من السكان).

–  تدمر ثلثا البلد – خاصة برلين والمدن الكبرى – ومحيت قرى بكاملها وتجمعت ألوف الأطنان من الأنقاض ودمرت أغلب المصانع وجرفت المزارع.  

–  تقسيم ألمانيا في مؤتمر "بوتسدام" إلى أربع مناطق بإدارة الحلفاء (أمريكا، الاتحاد السوفييتي، بريطانيا، فرنسا)، ونتج عندها لاحقاً قيام ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية.

– تنازلت ألمانيا وفقاً للمؤتمر عن 25% من أراضيها لصالح بولندا والاتحاد السوفييتي.

– حوالي 8 ملايين أسير حرب ألماني اُحتفظ بغالبيتهم كعمال سخرة لإعمار الدول التي دمرتها ألمانيا، ولم يعودوا إلا بعد مضي سنوات.

–  الانتقام من القومية الألمانية وطرد حوالي 12 مليون شخص ذوي أصول ألمانية من مختلف أنحاء أوروبا ونقلهم إلى ألمانيا، أغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن، مات منهم أكثر من نصف مليون شخص بسبب سوء المعاملة وعدم وجود مأوى لهم في ألمانيا.

– فرض تعويضات لصالح الدول والأفراد المتضررين من ألمانيا بقيمة حوالي 27 مليار دولار (ما يعادل 625 مليار دولار حالياً) دفعتها ألمانيا على دفعات استمرت لحوالي 60 عاماً.

– القضاء على النازية التي حكمت ألمانيا لأكثر من 12 عاماً وتغيير القوانين والأنظمة ومناهج التعليم التي وضعتها، فضلاً عن تفكيك الجيش الألماني والأجهزة الأمنية.

– اعتبر الحلفاء أن الألمان مذنبون بشكل جماعي في جرائم الحرب الألمانية واعتقل ألوف النازيين وتمت محاكمتهم وإصدار أحكام بالسجن والإعدام على بعضهم، وخضع جميع الألمان – بمن فيهم المعادون للنازية – لتحقيقات شاملة وإرهاب سياسي هائل.

– تم تفكيك المصانع الحربية والكبرى وخطوط السكك الحديدية وأخذها كتعويضات للحلفاء، وجرت محاولات لتحويل ألمانيا إلى دولة زراعية ذات اقتصاد ضعيف بعيدٍ عن الصناعة (تبنى هذه الخطة "هنري مورجينتاو" وزير المالية الأمريكي، ورفضها لاحقاً الرئيس الأمريكي "ترومان" لأنها تعيد نفس الخطأ الذي قامت بسببه الحرب).

– انهارت قيمة العملة الألمانية وأصبحت بلا قيمة وأصبح الألمان يقايضون بالمزروعات والمنتجات والسجائر وانتشرت البطالة والفقر وانخفض مستوى المعيشة وقل الطعام وارتفعت نسبة التضخم لمستويات لم تشهدها ألمانيا من قبل.

– صادر الحلفاء كميات كبيرة من براءات الاختراع والعلامات التجارية وحقوق النشر والملكية الفكرية بما يبلغ قيمته حالياً حوالي 300 مليار دولار كجزء من تعويضات الحرب.

معجزة النهوض.. وتحطيم جدار العجز

هذا الموجز السريع لوضع ألمانيا بعد الحرب لا يقارن مع الخسائر والدمار في العراق بعد الاحتلال بأي شكل من الأشكال، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعسكرياً، وإن كان هناك بعض الزوايا المتشابهة، فألمانيا التي كانت خاضعة لحكم قومي شمولي أصبحت تدار من سياسيين خاضعين للحلفاء، في الشطر الغربي منها أحزاب دينية مسيحية موالون للأنظمة الغربية يدعمهم أصحاب الأعمال ورؤوس الأموال، وفي الشطر الشرقي منها شيوعيون موالون للجار الشرقي المستبد (الاتحاد السوفييتي) يدعمهم الحرفيون والعمال وأصحاب المهن.  

والسؤال الذي يهمنا: بعد كل هذا الدمار الهائل والخسائر الفادحة والضحايا والتقسيم الذي أصاب الألمان، كيف استطاعوا النهوض بألمانيا وتحقيق الوحدة والمنافسة بقوة على صدارة العالم سياسياً واقتصادياً؟

العامل الأول والأساسي هو اجتماعي نفسي، فالألمان قد أرهقتهم الحروب تلو الأخرى (من حروب اللوثرية إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية) ودفعوا ثمناً باهضاً للتنمر الاجتماعي والسياسي والتعالي على البشر، لذلك تركوا روحية الانتقام والثأر جانباً واعتذروا من جميع الضحايا الذين سقطوا على يد نظام هتلر وتحملوا مسؤوليتهم الأخلاقية تجاههم، وكانت لهم الرغبة والإصرار على إعادة إعمار بلدهم وتكاتفت جهودهم في تنظيف المدن المدمرة وإزالة الحطام بجهود ذاتية وإمكانيات ضعيفة، واستثمروا في بناء الإنسان الألماني ومجتمعه من جديد عبر الاهتمام بالتعليم والنظام الاجتماعي والأسري والصحي، وعاد مئات العلماء والمهندسين وأساتذة الجامعات الذين فروا من جحيم هتلر ليساهموا بإعادة إعمار ألمانيا.

ورغم الاختلاف الطائفي في مكونات المجتمع الألماني آنذاك (غالبية من البروتستانت بحوالي 58% يليهم الكاثوليك بنسبة 40% ، تطور لاحقاً إلى تنامي شريحة الملحدين في ألمانيا الشرقية إلى 25%)، فإن الصراع أخذ بعداً سياسياً وفكرياً وثقافياً وابتعد عن التوترات الاجتماعية والصراعات المسلحة، وسادت روح التضحية والعمل الجماعي وتقديم المصلحة العامة.

العامل الآخر الذي أسس للنهوض هو الإدارة السياسية ذات الإرادة الوطنية، ففي الجانب الغربي لألمانيا: تبنى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (الذي تأسس بعد الحرب مباشرة) سياسة إنقاذ ونهوض اقتصادية قادها المستشار  كونراد أديناور، ووزير الاقتصاد ومنقذ ألمانيا  لودفيغ إيرهارد صاحب فكرة "اقتصاد السوق الاجتماعي" الذي وازن بين الرأسمالية والاشتراكية.

وبعد 3 سنوات فقط من الحرب تحققت أولى معالم "المعجزة الاقتصادية الألمانية" بإصدار الفرنك الألماني الجديد ليقضي على التضخم والمقايضة بالبضائع، وبعد 5 سنوات عادت ألمانيا قوة اقتصادية تتفوق على بريطانيا وتنافس أمريكا، ووصل دخل الفرد الألماني إلى معدله ما قبل الحرب، واستقطبت ألمانيا أكثر من 14 مليون مهاجر من إيطاليا وإسبانيا واليونان وتركيا وتونس والمغرب لتعويض نقص اليد العاملة، وبعد مرور عقدين من الحرب ارتفع الدخل بنسبة سبعة أضعاف وتضاعفت ثروة الفرد بنسبة ثلاث أضعاف، أما في الجانب الشرقي من ألمانيا فرغم خضوعه لهيمنة السوفييت فإنه حقق ازدهاراً صناعياً وزراعياً فاق الدول الاشتراكية الأخرى.

وبعد مرور 4 عقود من الحرب أثمرت هذه العوامل وغيرها توحيد شطري ألمانيا بعد إسقاط جدار برلين الذي فصل بينهما، وتم بناء دولة جديدة على أساس التفاهم والاتفاق والمشاركة السياسة لا الهيمنة والإقصاء والمحاصصة، وأصبحت ألمانيا اليوم قوة عظمى تنافس أعداء الأمس في الساحة السياسية والاقتصادية العالمية بعد أن كانت خاضعة لهم طوال عقود.

صخور البداوة والفساد  تُعجز العراقيين عن النهوض

عوداً لما تقدم، فليست الإرادة الخارجية وحدها هي التي تمنع العراقيين اليوم من النهوض بواقع بلدهم والتمتع بثرواته التي لا تتمتع بها ألمانيا، فالمشكلة الأساسية تكمن في طبيعة المجتمع العراقي الذي سيطرت عليه روح البداوة بجانبها السلبي وهزمت روح الحضارة التي حاولت بناء الدولة وأنظمتها، فهيمنت روح الغلبة وحب الزعامة والرياسة والنزعة للقتال والعصبية العشائرية والطائفية والحزبية وعدم احترام القوانين والنفرة من الطاعة والخضوع للدولة، واحتقار المهن والصناعة والزراعة بمقابل السلب والنهب، مضافاً إليها انتشار الأمية العلمية والدينية والسياسية وتفشي الفساد وغيرها من العوامل التي تجثم فوق صدر المجتمع العراقي وتمنعه من النهوض رغم مرور عقدين تقريباً من الاحتلال الأمريكي لبلدهم.

أصبح اللجوء لألمانيا اليوم حلم كثير من العراقيين الباحثين عن الأمن والطمأنينة والعيش الحر الرغيد، ولو أنهم تركوا عالم الأحلام وانتفضوا بجد وأزاحوا صخور الجهل والتخلف التي تعرقل نهوضهم لأصبح العراق جنةً يتمنى الألمان أن ينالوا نصيباً من خيراتها كما كانوا يحلمون به بالأمس، وقد بدأت الانتفاضة على الواقع المرير بالفعل، ولكنها تحتاج إلى تخطيط وطول نفس ومطاولة عراقية تشابه مثيلتها الألمانية. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي هادي
كاتب عراقي مهتم بقضايا الفكر والسياسة وعلم الاجتماع
كاتب عراقي مهتم بقضايا الفكر والسياسة وعلم الاجتماع
تحميل المزيد