شيء بسيط إن فعلته أصبحت مَلِكاً بقلوب الآخرين!

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/23 الساعة 14:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/24 الساعة 07:57 بتوقيت غرينتش
شيء إن فعلته أصبحت ملكا في قلوب الآخرين

أول ما يتبادر إلى ذهننا عند ذكر مصطلح "عبادة" هو عبادات الصلاة والصوم والزكاة والحج، ومثيلاتها من العبادات التي حصرنا عليها مصطلح "عبادة"، متناسين أو متغافلين عن بعض العبادات العظيمة التي اندثرت وسقطت من تصنيف العبادات إلى تصنيف الأفعال العادية. من أعظم هذه العبادات المنسيَّة عبادة جبر الخواطر في لحظات الضعف والانكسار والحزن. هذه الحياة بقسوتها وعنائها وشقائها وكَبَدِها نحتاج فيها إلى يدٍ حانيةٍ تمسح عن قلوبنا الاضطراب فنهدأ، وإلى كلمة طيبة تنزل على أرواحنا المشتعلة برداً وسلاماً فنسْكُن. وفي أحيان كثيرة لا يحتاج البعض مِّنا سوى أن يتوقف الناس عن أذيتهم وكسر خواطرهم، فالتوقف عن كسر الخواطر هو جبر خواطر بطريقة أخرى.

 كسر الخواطر

استسهلنا إطلاق العنان لكلماتنا القاسية من دون تجربتها على أسماعنا أولاً، فاخترقنا بسهام ألسنتنا خواطر غيرنا، بقصد أو من دون قصد. وأفضل اعتذار يمكننا تقديمه للقلوب التي آذيناها هو الندم، والاعتذار، وتغيير السلوك؛ فالتوبة أيضاً تشمل علاقتنا مع البشر. تغيير السلوك طريق محطته ليست واحدة، المحطة التالية التي يجب علينا أن نتجه إليها أولاً هي محطة التوقف والإقلاع عن الكسر، أن نخلع عنَّا رداء الكبرياء؛ فنعرف أنَّنا قد آذينا وجرحنا. 

أن نتحسس عدد القلوب التي آذيناها، والأرواح التي أنَّتْ بسببنا، والكلمات التي أطلقناها فأحدثت شرخاً في مضغة أحدهم، ومضينا بعدها لا نبالي، وبعد أن نتعلم الدرس جيداً، ونشدّ العزم على ألا نعود لتلك المحطة مرة أخرى، يمكننا الانطلاق إلى محطتنا الأخيرة، محطة تعلم جبر الخواطر، أن نتلمّس أبجديات هذه العبادة، أن نعتذر حين الخطأ، ونشكر حين العطاء، ونسأل حين الانطفاء: هل أنت بخير؟

هل أنت بخير؟

 جبرُ الخواطر في بعض الأحيان لا يحتاج مِنَّا إلى جهد كبير؛ كأن تتفقد وتسأل عن انطفاء أحدهم: هل أنت بخير؟ أخبرني أنا هنا. الأمر أشبه باعتذار منك إليهم نيابة عن كل الذين عاثوا في قلوبهم خراباً، وقْع هذه "الطبطبة" -رغم بساطتها- يكون عظيماً على النفوس. بعض الجبر يكون على هيئة سرد حكاياتٍ طريفة، تجلب الضحكات فتجعل القلوب خفيفة. وبعض الجبر يلبس ثوب الهدايا ودعوات الطعام، يقول أحدهم مازحاً في هذا السياق: وإني لألقى الرجل، فيكون بيني وبينه خصام، فيدعوني للطعام، فلا يكون بيني وبينه شيء. بعض الجبر يكون على هيئة دعم ومساندة، كأن تخبر أحدهم في لحظات ضعفه أنك معه وبجانبه وأنه على حق.

إن كان قال فقد صدق

جاء في السيرة أنه في صبيحة ليلة الإسراء قَدِمَ المشركون إلى سيدنا أبي بكر الصديق، ليخبروه أن صاحبه -محمد بن عبدالله- قال إنه أُسريَ به من مكة إلى بيت المقدس، ثم عاد في ذات الليلة، عاد في ذات الليلة وهم الذين يقطعون نفس هذه المسافة شهراً ذهاباً وشهراً إياباً. كانوا يظنون أن الصِّديق سيُكذب صاحبه، لكنه خيَّب ظنهم حين قال لهم: "إن كان قال فقد صدق!". بِضْعُ كلماتٍ بسيطة تحمل معانيَ كبيرة وعظيمة، وكأنه أراد أن يقول لهم: إنه صاحبي محمد، أنتم لا تعرفونه وأنا أعرفه حقاً، إنه الصادق الأمين، إن قال إنه أُسري به من مكة إلى بيت المقدس ثم عاد في ذات الليلة فقد صدق، فيا ترى كيف كان شعور النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سمع دفاع صاحبه عنه؟

لا أنساها لها

 بعض الجبر لا يحتاج سوى أذن مصغية، تُجالس صديقك المكسور، فيحكي لك معاناته، يشكي لك من ظلموه، وكيف أنه عانى، وأنه حزين، وأن الدنيا أتعبته، وأنه خُذل، وأن الحزن طوّقه من كل الجهات، يحكي لك ويحكي… وأنت تسمع حتى نهاية الحديث. 

بعض الناس بسيطون جداً، يُجبر خاطرهم ويستريحون بمجرد أن يجدوا من يُخرجون له حديث قلبهم المكلوم. وبعض الكلمات تخرج في شكل دموع! ففي حادثة الإفك دخلت امرأة من الأنصار على السيدة عائشة رضي الله عنها، وبكت معها كثيراً حتى من دون أن تقول كلمة. قالت السيدة عائشة: لا أنساها لها. فجبر الخاطر في لحظات الضعف والانكسار يا صديقي لا يُنسى، لا يُنسى أبداً.

جبرُ خاطرٍ سماوي

قال تعالى في سورة عبس: "عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى". في هذه الآيات تتجلى واحدة من أجمل قصص جبر الخواطر، جبرُ خاطرٍ سماويٍّ، جبر خاطر عبارة عن آيات يُعاتب فيها الله نبيه لإعراضه عن سيدنا عبدالله بن أم مكتوم رضي الله عنه، وقد كان ضريراً أعمى، فذات يوم جاء يسأل النبي في أمور الدين، ووجده جالساً مع كبار كفار قريش محاولاً هدايتهم، فكان يُلحّ في سؤال النبي من دون أن يعلم أن النبي مشغول عنه بآخرين، وقد ظهر على وجه النبي الكريم العبوس كما جاء في القرآن الكريم، فأنزل الله قرآناً يعاتب فيه نبَيَّهُ، ويجبر خاطر سيدنا عبدالله بن أم مكتوم. 

 ختاماً وحباً

 هُنالك بعض الناس البُسطاء الذين يجبرون خواطر أنفسهم بمُداوة جراح الآخرين، وهم في أشد الحاجة لمن يُداوي جُرحَهُم، يا لَعظمتهم وهم يجعلون من العطاء ضماداً لجروحهم. فسلاماً وحُباً على قلوبهم دوماً وأبداً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

Preview in new tab(opens in a new tab)

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد خليفة
كاتب سوداني شاب
مواليد الخرطوم أكتوبر 1997، مؤلف كُتيِّب "97 تنهيدة"، كاتب مهتم بالتجارب الحياتية.
تحميل المزيد