لا بد أن نعترف أن ثمّة ارتباطاً جميلاً بين احتفاء الكثير من الدول العربية بيوم الأم وأول أيام فصل الربيع، فالأمهات ربيع البيوت والقلوب، ربيع هذه الحياة والوجود، أساطير خلقهنّ الله مجبولات بعاطفة لا يمكن لهنّ الانهزام بها أمام الكون، خُلقن بطبائع محفورة في تكوينهنّ كما يُحفر في قلوبنا حبهنّ بأفعالهنّ وتضحياتهنّ الجسام.
لستُ بصدد النقاش في مشروعية هذا اليوم أو فتوى الاحتفاء به، أنا مع كل الآراء وأحترمها –هكذا علمتني أمي على الأقل- ولكن خصوصية هذا اليوم في تأريخه تعود إلى حقبة قديمة كانت فيها النساء في الولايات الأمريكية يكابدن آلام الحرب، فأعلن عن هذا اليوم ليمارسن فيه فعاليات التخفيف عن نفوسهنّ التي اكتوت بنار الحرب الأهلية، ونار المسؤوليات، إذاً الطابع إنسانيّ بحت، ليس مقروناً بدين أو مجتمع ما، فجميع أمهاتنا مقهورات على حالنا في مجتمعاتٍ تطحنها الحرب منذ الأزل.
أطرح في هذه التدوينة مبدأ الأنثى كأم على أي حال كانت هي عليه، الخصوصية العاطفية التي وهبها الله للأنثى، ويعتقد الكثير من الناس أن هذه نقطة ضعفها، فتجدهم يستشهدون بمفهوم مغلوط لآيات قرآنية أو أحاديث نبوية من شأنها تعظيم المرأة ويعتقدونها انتقاصاً من حقها، كشهادة امرأتين تعادل شهادة رجل واحد….، ولو ولجنا في عمق مقاصد الله ونبيّه محمد صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن الأنثى بطبيعتها عاطفية تميل الى الإحسان في كل أمر، تغلب عاطفتها على قسوتها، لذلك ما زالت المجتمعات البشرية تنبض بالخير، ولا أجمل من حديث الرسول عن صفات الأنثى الخَلقية "إنهنّ المؤنسات الغاليات"، فكل أنثى هي أم بالضرورة وإن لم تنجب، فالأمهات أنيسات نفوسنا، عظيمات القدر والمنزلة في نفوس عوائلهن لطبيهنّ ولطفهنّ وعطفهنّ، بهنّ تُبنى المجتمعات فهي الولّادة التي تنجب المجتمع وهي القائمة على إعداده، وهذا ليس نفياً لدور الرجل، فالله خلق اختلافنا وخلق لكل اختلاف مهمة، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن المرأة منقوصة في أي أمر.
أتذكر فيما مضى من سنوات قليلة كنتُ أعمل في مهنة التدريس وكنت عزباء آنذاك، ولكني كنتُ أرشد طلابي بكلام أمومي "يلا يا ماما، انتظم بالطابور يمّا، أنهِ فطورك يمّا" لم تكن هذه العبارات عفوية بقدر ما كانت تشير إلى علاقة عميقة أكنّها في نفسي للطلبة على الرغم من أنهم ليسوا من صلبي، ولكني كنتُ أستشعر بأنهم أمانة الله عندي أولاً، ثم أمانة المجتمع والوطن ثانياً، وأمانة والديهم ثالثاً.
حتى إن الطلبة الأطفال منهم كانوا يعبرون عن استغرابهم من قولي لهذه الألفاظ بـ "ماما يا مسّ!" فكان لزاماً عليّ أن أشكل فكرة في أذهانهم أن المعلمة أُم وإن لم تنجبك، وأن كل أنثى هي أم بالضرورة وإن لم تنجب، فالأمومة الشعورية لدى كل أنثى أمر فطري، فلا تسأل عزباء لماذا تعتبر نفسها أماً لأطفال ما، ولا تسأل مَن حرمها القدر من أن تكون أُماً لماذا تشعر بالأسى على هذا الحرمان، فأعتقد أن المرأة تكتمل شعورياً بأمومتها، حتى لو كانت رئيسة دولة كبرى، يظل طيف الأمومة يراوغ تفكيرها حتى تصبح كذلك.
أما عن نساء لم يكنّ أمهات لأبنائهنّ الذين من أصلابهنّ فقط، إنما كُنّ أمهات لجيل يحتفي بهنّ كرامة وحباً وتضحيةً، نموذج هؤلاء النساء يختصّ بهنّ كل مجتمع ويتفرد بخصوصيته بما يتناسب معه، مثلاً يعتزّ الشعب الفلسطيني بأمهات سطرن نموذج بطولة فريدة في تربية أبنائهنّ على حبّ البلاد حتى الاستشهاد وما تلبث الأنثى ذاتها أن تصبح أم المقاوم ثم أم المطارد ثم الأم التي هُدم بيتها على يد سلطات الاحتلال ثم أم الجريح ثم أم الشهيد ثم أم الأسير صاحب الأحكام المؤبدة مدى الحياة.
ثم ذاتها تصبح أسيرة في سجون الاحتلال الصهيوني، كسهير البرغوثي "أم عاصف" والتي لا يراها حُرّ إلا ويقول لها "أمي أم عاصف"، ونموذج الأم التي قدمت ابنها شهيداً وستة آخرين في الأسر بأحكام عالية "سنديانة فلسطين" أم ناصر أبو حميد، ونموذج الأنثى التي كانت أم الوطن جميعه بدفاعها عنه أمام العدو كالشهيدة دلال المغربي وريم الرياشي… وقائمة تطول، وأنثى أعدت جيلاً صلباً عنيداً مقاتلاً أودعت الله أمانته عندما أوصلت نجلها إلى الشهادة بيدها وهي تقول "فداءً للوطن".
نحن نتغنى بالأمهات ليس اعتباطاً، نحن نراهنّ أوطاناً كبيرة، وحق للوطن علينا أن نحتفي به حباً وإكراماً وإجلالاً وفداءً.. أما لأمي العظيمة، فأنا أحبكِ جداً، أنتِ إنسانة خارقة، أسطورة لا تُقال، بغيابها نحن عَدم، بحضورها نحن انعكاسها، بمرضها جميعنا أطبّاء، بشفائها هي الدواء.. الأمومة فعل لا يقوى عليه إلا عاطفة المرأة المجبولة عليها في تكوينها الخَلقي.. فكل أنثى هي أم بالضرورة وإن لم تنجب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.