لا أعتقد أن هناك دولة أو شعباً وقع ضحية لجيرانه الكبار مثل أفغانستان. بالرغم من وقوع الكثير من الدول الصغيرة من ناحية المساحة والتعداد السكاني ضحية لأطماع جيرانهم الأكبر مثل الكويت التي اجتاحها الجيش العراقي عام 1990، وشبه الجزيرة الكورية التي اجتاحها الجيش الياباني في 1910 وغيرهما من الأمثلة.
وإذا كان لشعب أن يكون قدره مرتبطاً بكونه واقعاً بين دول مثل الاتحاد السوفييتي السابق وإيران وباكستان، فإن هذا القدر كان وبالاً على الشعب الأفغاني منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي. إذ عانى من تداعيات الغزو السوفييتي طيلة عقد الثمانينيات، ومن سيطرة طالبان وأمراء الحرب في التسعينيات، ومن الغزو الأمريكي خلال العقدين الأخيرين.
وبالرغم من شغفي القديم بقراءة التاريخ ومتابعة الأخبار السياسية ومعرفة مراحل تطور الشعوب والأمم، لكنني أعترف بأن الأدب والرواية يوفّران معرفة أكبر بأحوال الشعوب وأطوار الأمم بصورة أكبر مما تفعل الأخبار والتقارير السياسية المقروءة والمسموعة. وليس هناك مثال أفضل من روايات خالد حسيني وسردها للتاريخ الحديث والتقلبات السياسية والطبقات الاجتماعية والعادات والطوائف الدينية للتعرف على مسقط رأسه أفغانستان. فهذا الكاتب المبدع المولود في العاصمة الأفغانية كابول، قضى طفولته بين كابول وإيران وفرنسا -قبل أن ينتقل مع عائلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية- يكتب عن وطنه الذي أنهكه الغزو الأجنبي والصراعات الداخلية بقلم مفعم بالإحساس والتفاصيل الصغيرة والمثيرة.
سيرة الحسيني
وُلد خالد ناصر حسيني في العاصمة الأفغانية، كابول، في عام 1965 لعائلة مرموقة. فوالده ناصر حسيني كان يعمل كدبلوماسي بينما كانت والدته مدرسة لمادتي التاريخ واللغة الفارسية بمدارس كابول. وقد أتاحت له وظيفة والده أن يتنقل من كابول الى إيران التي عمل والده فيها دبلوماسياً في مطلع السبعينيات، ومنها إلى باريس التي نُقل إليها والده في عام 1976. وبعد الغزو السوفييتي لأفغانستان في عام 1979 مُنحت الأسرة اللجوء السياسي في الولايات المتحدة، لينتقل الصبي البالغ من العمر 15 عاماً حينها خالد الحسيني مع والديه وإخوته في أواخر عام 1980 إلى مدينة سان خوسيه بولاية كاليفورنيا الأمريكية.
حصل خالد حسيني على درجة البكالوريوس في علم الأحياء في جامعة سانتا كلارا في عام 1988، ثم على بكالوريوس الطب في جامعة كاليفورنيا في 1993. ليتخصص بعدها في الطب الباطني ويمارس مهنة الطب لعقد من الزمان قبل أن يدخل الى عالم الرواية والأدب الذي لم يقدر على مغادرته حتى الآن. ففي عام 2003 نشر حسيني روايته الأولى "عدّاء الطائرة الورقية"، التي بدأ في كتابتها في شهر مارس/آذار من عام 2001، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر وقبل الغزو الأمريكي لأفغانستان.
عدّاء الطائرة الورقية
تدور أحداث الرواية في نفس الحي الذي وُلد فيه حسيني في كابول بين طفل وحيد لعائلة غنية يدعى أمير، والده يعمل في تجارة السجاد وتوفيت والدته مدرسة التاريخ عند ولادته. وبين طفل يدعى حسن يعمل والده الذي ينتمي لأقلية الهزارة خادماً للأسرة ويعيشان في نفس المنزل. ويعيش الطفلان طفولة سعيدة في أفغانستان ما قبل الغزو السوفييتي والحروب. وتنشأ بينهما صداقة طفولة يدافع فيها حسن عن أمير – الخجول المنزوي في عالم الكتب – في محاولات أطفال الحي للاعتداء عليه. وفي إحدى الأمسيات يفشل أمير في الدفاع عن صديقه حسن أمام اعتداء ثلاثة من صبيان الحي الأشقياء عليه. الأمر الذي يُدخل في نفسه عقدة ذنب لم يتحرر منها إلا بعد 20 عاماً عندما أنقذ سهراب، ابن حسن الذي قتله مقاتلو طالبان هو وزوجته بعد استيلائهم على العاصمة كابول، من جحيم كابول واصطحبه معه إلى الولايات المتحدة حيث يقيم.
الرواية تلخّص فترة الخمسين عاماً الأخيرة من عمر أفغانستان، ابتداءً من انتهاء الحكم الملكي، مررواً بسيطرة الشيوعيين على البلاد والغزو السوفييتي الذي قام بعده والد أمير بالهروب من البلاد بصحبة ابنه أمير إلى باكستان ومنها للولايات المتحدة. ثم فترة حكم الطالبان التي شهدت مجازر بحق أقلية الهزارة الشيعية وفرار صديق والده وشريكه في تجارته، رحيم خان، إلى باكستان. وانتهاءً بالغزو الأمريكي الذي أخرج طالبان من كابول. وقد ساهم الغزو الأمريكي لأفغانستان، وهو أمر لا ينفي جودة الرواية والسرد الممتع فيها، في أن تكون في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في العالم في عام 2003 الذي نُشرت فيه. إذ بيع في 70 دولة على الأقل واستمرت لفترة على قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعاً. ليصدر بعدها فيلم عن الكتاب عام 2007.
مثل العديد من كتاب الرواية، تعتبر رواية "عدّاء الطائرة الورقية" جزءاً من قصة حياة خالد حسيني، أو هي انعكاس لتجربته الشخصية. فوالدة أمير، بطل الرواية، التي توفيت بعد ولادته مباشرة، كانت تدرس التاريخ واللغة الفارسية، تماماً مثل والدة الكاتب. والكاتب وُلد ونشأ في حي وزير أكبر خان، وهو من أحياء كابول الراقية، مثل بطل الرواية أمير، ورحل الكاتب وبطل الرواية مع عائلتهما بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان إلى سان خوسيه في ولاية كاليفورنيا. ليعود إلى أفغانستان لأول مرة في عام 2003. وبالرغم من أن خالد حسيني اختار دراسة الطب، بينما اختار بطل الرواية أمير دراسة اللغة الإنجليزية والكتابة الإبداعية، إلّا أن اختيار حسيني للعودة للكتابة بعد 10 سنوات من ممارسة الطب تجعلك تعتقد أن الكاتب يحكي عن جوانب كثيرة في حياته الشخصية.
ألف شمس ساطعة
خرجت الرواية الثانية "ألف شمس ساطعة" لخالد حسيني الى النور في عام 2007، لتحتل مثل سابقتها المرتبة الأولى ضمن قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعاً، وبقيت في هذه المرتبة 15 أسبوعاً. وتدور أحداث الرواية أيضاً حول التاريخ المعاصر لأفغانستان، أو النصف الثاني من القرن العشرين من خلال قصة امرأتين أفغانيتين هما مريم وليلى، حيث تعاني مريم من وصمة عار كونها ابنة غير شرعية ومن سوء المعاملة التي تعرضت لها خلال زواجها. بينما كانت ليلى فتاة متميزة نسبياً في فترة شبابها. وتتداخل حياتهما عندما تضطر ليلى إلى الموافقة على طلب الزواج الذي قدّمه رشيد، زوج مريم. ومثلها مثل "عدّاء الطائرة الورقية" تبرز الرواية جانباً مهماً من حياة المجتمع والوضع السياسي في أفغانستان.
نشر حسيني روايته الثالثة "وردّدت الجبال الصدى" في عام 2013، وهي رواية تدور أحداثها حول أفغانستان ما بعد الغزو الأمريكي من خلال الصبي عبدالله، البالغ من العمر 10 سنوات، وشقيقته باري، البالغة من العمر 3 سنوات. وتتحدث الرواية عن علاقة الشقيقين وقرار والدهما ببيعها لأسرة ليس لها أولاد في كابول بسبب الفقر وعجزه عن إطعامهما، كما تصف الوضع في مخيمات اللاجئين الأفغان في باكستان والتحديات التي يواجهها هؤلاء.
عقدة الذنب
تحسّ في قراءة روايات حسيني بالذنب الذي يعتريه كونه نجا من أهوال الحرب والغزو السوفييتي والأمريكي لبلاده، وبينهما الحرب الأهلية وسيطرة طالبان القصيرة على الوضع في البلاد. وكلها فترات مليئة بالصعوبات والموت والتشرّد. ومثله مثل الكثير من أفغان الشتات يحاول حسيني أن يخفف من شعور الذنب هذا بالمساهمة في مساعدة مواطني بلده من خلال العمل الإنساني، حيث زار بلده لأول مرة بعد مغادرته منتصف السبعينيات في عام 2003، ليعود مرة أخرى في 2007 مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. ثم عينته المفوضية سفيراً للنوايا الحسنة للمفوضية في 2013. وهو أيضاً رئيس مؤسسة تحمل اسمه هي "مؤسسة خالد حسيني" تعمل بالشراكة مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في مساعدة اللاجئين وتوفير المأوى والتعليم والرعاية الصحية في أفغانستان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.