من متسوّل هزيل بلا مأوى إلى فائز بجائزة نوبل.. سيرة “الجائع النرويجي” كنوت همسون

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/20 الساعة 09:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/20 الساعة 09:05 بتوقيت غرينتش
كنوت همسون

توقفت السفينة في ميناء كريستيانيا لمدة يوم، قبل أن تُكمل رحلتها إلى كوبنهاغن، لم يستطع كنوت همسون النزول لمواجهة المدينة التي عانى فيها من الفقر والتشرد والجوع قبل عشرة أعوام من سفره إلى الولايات المتحدة. جلس في السفينة يتذكر الصبي النحيل بعمر التسعة عشر عاماً وهو يستعطف بعض الدفء والكفاف لمعدته الصغيرة. المنازل، والفتاة التي وقف طويلاً أمام منزلها ينتظر رؤيتها، والمحسنين القلائل الذين أقرضوه المال، هاجمت تلك الذكريات همسون؛ فتناول ورقة وبدأ يكتب "حدث هذا في تلك الأيام التي كنت فيها مشرداً أتضور جوعاً في مدينة كريستيانيا، تلك المدينة العجيبة التي لا يغادرها أحد قبل أن تسِمه بسِماتها".

عند الوصول إلى الوجهة النهائية وجد غرفة رخيصة للسكن، وأمضى وقته في الكتابة كمهووس، تطارده الذكريات في الصحو وحين ينام تقلقه، فيستيقظ لتدوينها حتى يعود لها في اليوم التالي.

في لحظة ما، توقف تدفق الكلمات في رأسه، فمضى يبحث في أروقة الصحف عن ناشر يقبل مخطوطته. توجه إلى إدفارد برانديس، المحرر الأدبي لصحيفة بوليتيكن (Politiken) وشقيق الفيلسوف والناقد الأدبي جورج برانديس. صُدم برانديس من مظهر همسون المتسول وملابسه الرثة البالية، وقد قال عن الوجه الذي دخل مكتبه ذلك اليوم إنه كاد أن يُبكيه. كان همسون بائساً، يعاني من سوء التغذية كشخص لا تراه إلا في صور المجاعات، وبتلك الهيئة سلمه الأوراق بيد ترتعش، وترك اسمه وعنوانه، بعد أن حصل على وعد بأنها ستقرأ، وكان سبب قبولها شعور برانديس بالشفقة للأسباب السابق ذكرها.

ثم عاد برانديس لمنزله في وقت لاحق، وبعد تناول العشاء بدأ في قراءة الأوراق؛ لأنه فشل في إبعاد صورة الشبح الهزيل الذي زاره هذا الصباح. بضع صفحات وتملكه شعور بالحزن والتألم، لأنه لم يعامل الكاتب الموهوب بشكل لائق أكثر مما فعل. ارتدى معطفه وتوجه إلى أقرب مكتب بريد ليرسل بعض المال لهمسون. وبعد عودته أكمل قراءة القصة، التي قال إنه لم يقرأ مثلها من قبل.

حصلت القصة على اهتمام القراء في النرويج والدنمارك بعد نشرها، ما دفع همسون لإكمالها. لاحقاً صدرت كرواية في عام 1890 بعنوان "الجوع".

كان ضرورياً الإشارة للأصل الذي كُتب النص بحبره، فهو شبه سيرة ذاتية لفترة من حياة المؤلف، محملة بالعواطف وخصوصية التجربة. لو سلمنا بأن المشاعر شيء مشترك بين جميع البشر، فالبائع المتجول وعامل المقهى والمثقفون والجهلة ورجال الدين، الجميع يتلمس فائض العواطف الذي لا يجف من الوجود، لكن تلك المشاعر التي تسري في الجسد الفردي لا تكفي لصناعة أدب جيد، والصدق في نقلها ليس بالضرورة قادراً على إقناع القارئ بما يتصفحه على الورق. فتلك العواطف يلزم أن توضع في سياق يحول التجربة الفردية لشيء يمكن للجميع معايشته والشعور به.

بداية من اسم الرواية، الجوع عملية تحدث داخل الإنسان، وتستحضر شعوراً بالخوف والعجز، كما تحمل دلالة اجتماعية للفقر. إذن فمكان الأحداث هو داخل الفرد، الذي يمثل ساحة صراع البطل، ساحة التجربة الإنسانية بكل تنوعاتها وتجلياتها الصادمة، والزمن السردي بطيء لأن اللحظة، الثانية الواحدة، قد تحمل في الإنسان شحنة من التفاعلات والحالات العقلية الغامضة، فالمهم هو وصف الحالة الآنية، فتشعر وكأن وقت السرد اتَّخذ مساراً طويلاً في الحكاية، والحقيقة أنه لا شيء يحدث، فالجائع يتوقف الزمن حوله، لا يسمع سوى صوت معاناته وحاجته الملحة للطعام وصراعه البائس كل ليلة للبقاء.

كنوت همسون
كنوت همسون في طفولته

ربما أراد همسون وصف كاتب موهوب، يتسم بالعبقرية والثقافة، يمكنه كتابة ثلاثة فصول في المعرفة الفلسفية، يفند فيه (مزاعم) الفيلسوف كانط، ينتقده بقسوة، وهو شيء ذو قيمة، يتقاضى على أساسه عشرة ريالات، المبلغ الذي يكفل له العيش عدة أيام، لا يخشى المستقبل؛ لأن المادة الأدبية والإبداع لديه موفور، ورغم ذلك يتضور جوعاً، يعاني حتى بلغ في إحدى النوبات التسلل إلى أحد الأزقة والقضم على عضمة أو أن يلوك خشبة في فمه، ليسكت معدته الخاوية. لا يملك سوى الأوراق وقلم رصاص يحملها للحدائق العامة أو أسفل أعمدة الإنارة للكتابة. يشرح همسون التجربة القاسية التي يكابدها البطل، لكن أي بطل، من هو؟ من أين أتى؟ وكيف وصل انحداره لتلك المرحلة؟ وإلى أين سترسو سفنه؟

إن الجوع كغابة بورخيس، تُدخل القارئ لدروبها المتداخلة، للمتاهة حيث تطارد الأمل بالخروج، لكن تفاجئ بالعودة من حيث انطلقت إلى نقطة الاختيار الأولى. نعرف من بداية النص أن الراوي ينطلق من الأنا في مكان ما ستأخذنا عودته للماضي إليه عند آخر صفحة، ولكن البداية الغامضة لا تكشف الغطاء عن ماضي البطل، تضعنا في حاضره، حيث يتحدث بصيغة المضارع، ما يترك فراغاً صامتاً في البداية، يشتبك مع الصمت فيما يصح أن نسميه النهاية؛ إذا افترضنا أن آخر ورقة في الرواية تمثل نهايتها حقاً. إذ إن همسون لا يمنحنا أجوبة ولا يهدي الحلول. حتى إن الأسئلة غير مطروحة في النص، ويتعين على القارئ الاشتباك مع الصمت، فلا يظهر بارقة نور للخروج من الغابة/المتاهة. بل سنقضي الجزء الباقي من الحياة بحثاً عن الإجابة بين الصمتين، بعبارة الفيلسوف أمبيرتو إيكو "نحترق من سكوت الكاتب".

نجهل اسم البطل الحقيقي، وهو نكرة بمعنى نقيض المعرفة، فيحيل إلى الإقصاء والإهمال والتهميش واللامبالاة وعدم الاعتراف، تلك الدلالات تتجسد في الراوي المجهول، الذي يحارب بكبرياء حقيقة أنه يشبه طائر نتف ريشه أكثر من شبهه بالإنسان.

العلاقة بين البطل وباقي عناصر القصة من شخصيات تظهر لتأخذ مكانها في أجزاء من النص، أصواتها مكتومة نسمعها من خلال صوت الراوي، ويحدث التفاعل معها بشكل يقطع كل منهم الآخر، لكن البطل وحده من يستمر معنا، ولنكن واضحين، فإنه يستمر فينا، فنحن مكفوفين بدونه.

تكتسب المدينة وجوداً هيّأه لنا الكاتب منذ العبارة الأولى، حاضرة بشوارعها، منازلها، تخطف نظرة للمعروض في أفران الخبز ومحل الرهونات، الجوع والخوف والنقمة على أوجه العابرين والفقراء. هناك صراع مستمر بين داخل البطل والمدينة التي تمثل الآخر، وتعمل على تغريبه/استلابه. في حالة البطل، يعيش حياة داخل نفسه، وحياة أخرى موازية عند الخروج هائماً دون وجهة في المدينة؛ التي تعمل على تفكيك وسلب ذات الإنسان. هكذا نحن أمام قصتين ملتحمتين في كيان واحد، صراع خارجي مع المجتمع وقوانينه الغائرة وطباعه القاسية، وعذاب داخلي هو الحس الإنساني في ضلوعه، يستحضر صورة راسكولينكوف في الجريمة والعقاب، لكنه يختلف عن ديستوفيسكي في عدم محاولة التبرير أو الشرح أو تقديم الإجابات؛ مثل كافكا، يباغتك فجأة.

يقاوم البطل المدينة المتسلطة، يحارب هيمنتها، يجوع لأن أخلاقه وكبرياءه يمنعانه من السرقة، هذا الجانب الأخلاقي الحاضر بقوة ليس أمامه سوى السقوط أمام القوة الخفية لتلك السلطة، وهذا الحشد الذي ابتلع قسوة المدينة، لا مبالاة المجتمع الحديث ورفضه لاستقبال المشردين والفقراء داخل عالمه الدارويني. صراع الفرد الاستثنائي ضد المدينة والمجتمع.

معركة غير متكافئة، نراقب انحطاط البطل وإخفاقه، الطريق نهايته الانهيار أو هكذا يبدو لنا. فالبطل السيزيفي يواصل دحرجة الصخرة، ولا يبحث عن شفاء للنفس مثل أبطال ديستوفيسكي، فهو يواصل الكتابة، يستمر في الفعل نفسه وهي صورة البطل الحداثي، الثورة التي حركها كنوت همسون قبل عقد من بداية القرن العشرين، أو على حد تعبير إساك سنجر "مدرسة الرواية الحديثة بالكامل في القرن العشرين تنبع من همسون". ولا عجب في أن كُتاباً مثل: فرانس كافكا، توماس مان، شتيفان تسفايغ، هرمان هيسه، إرنست همينغوي، هنري ميلر، جون فانتي، بول أوستر، تشارلز بوكوفسكي.. وغيرهم ممن كان أسلوب همسون نقطة انطلاق نحو تشكيل نبرتهم.

متاهة همسون

إن إحدى الإشارات المتوارية في النص، عندما زيل البطل خطاباً أرسله ليتقدم لوظيفة بتاريخ 1848، كانت الأرقام سبباً ينضم لأسباب أخرى حالت دون قبوله في أي وظيفة. وحين جلس يفكر في مقال جديد، كتب دون وعي تلك الأرقام بدون سبب مبرر. في الواقع، يتضح أن هذا العالم الذي شهد "ربيع أوروبا"، الثورات التي اشتعلت في العالم من البرازيل حتى المجر، وهو عام الثورة الوحيدة في تاريخ النرويج. والتي فشلت في إحداث تغيير اقتصادي ضد سيطرة الأرستقراطية وتغيير حالة البؤس في أوساط الناس. وهو عام كتابة ماركس وإنجلز للبيان الشيوعي. لا يوجد مبرر داخل النص لاستخدام هذا التاريخ، ما يفتح للقارئ عصباً استراتيجياً للتأويل، على حد تعبير إيكو. وإن كان رأي الكاتب مخالفاً لتأويلنا بأن التاريخ بمثابة انزياح للصراع الطبقي، وإشارة للنقمة والغضب على السلطة السياسية التي لم نسمع صوتها في النص، فرفضه لا يهم ما دام النص مفتوحاً على كل الاحتمالات.

وهنا مستعيراً وصف هايدجر للشعر "يُقدِّم الوجود نفسه هناك، حيث تخفق الكلمة". ويشمل الوصف همسون، إذ تكون الفراغات في الرواية ممراً يقودنا للأشياء والعلامات الغامضة، ودرباً يشغله القارئ الذي يسعى لإمساك الحقيقة. وبالعودة لمثال غابة بورخيس فمن الممكن إن غابت الطرق الممهدة أن نتخذ موضعاً نسير منه يسار شجرة أو أسفل جذع ما تتوارى خلفه الإجابة.

إن الشيء المجهول يرتبط بشعور بالغرابة والدهشة أيضاً، حين ينكشف شيء من وجوده. وبالنسبة لهمسون الذاتية الإنسانية المضمرة، والمنفية لأن وجودها يحتاج أن تبرر نفسها. همسون هائم في شوارع تلك المنطقة، خارج الوعي، يهمس ببعض من الأسرار التي تثير فضولاً أكثر، ولا يرشد لشيء بل يزيد الغموض. يتشكل غموضه من عرضه التجربة كما هي، فوضوية، مشوهة، يشتبك الحدث مع الخيال والواقع مع الأسطورة. دون وعد بحل في السطر الأخير، فالشاغل هو التجربة النفسية للعقل في غرابتها متخذة في بعض الأحيان شكل الهذيان.

فالبطل لا يشتبك مع الوضع من منظور منطقي يحتاج الارتقاء فوقه وانتقاده من الأعلى بالترفع عن الذاتية، وإنما يعترض على استبداد العقل، نافياً عنه الإقصاء والإبعاد الذي لعبه في الماضي. والأفكار لا مباشرة، تتخذ طريقاً ملتوياً بالخروج في تعليقات متهكمة على الشخصيات. بنبرة شخصية كالأصوات التي يسمعها الإنسان في رأسه عند التفكير لا بنبرة الإله العارف بكل شيء. فيفتح الباب أمام اللاعقل للبطل، والمشتت بتشابك ما يمكن تسميته بلغة فرويد، الهو والأنا والأنا العليا، فالنزاع وتمزق ذات البطل يؤدي لتفكك صوت الكاتب، ولا يسير بنبرة واحدة مستقرة. العالم نراه بعين متسكع كلما تحدث زاد الغموض والتشتت بين الأصوات المتشابكة، ولا تسمع صوت دليل يخرج من حالة الارتباك الضبابية، وإنما تتعقد الصورة لأن عالمه "يتوقف على الذات التي تقوم بإدراكه". وهي كما ذكرنا غامضة تتماهى في المدينة بلا وجهة كما نتماهى مع النص شاعرين بعجز الفرد.

نلمس مأساة العصر، حيث يبدو أن العالم لم يعد يؤمن بالسعادة والإبداع والخلق، وهي حالة يعرضها همسون بسخرية. حيث تظهر السمة الحقيقية للمعاناة الإنسانية، وهي أنها مضحكة ومسلية ولتجاوزها لا يمكن التعامل معها بجدية. وإنما بدحرجة صخرة سيزيف، والهدف النهائي ليس الاعتراض والتغيير، إنما الانغماس في حميمية التجربة الذاتية بكل خصوصيتها، حين تشتبك مع العالم الخارجي. أو كما يصف عالمه بأنه "محاولة وصف حياة العقل الغريبة الفريدة، غموض الحركة العصبية في جسد جائع".

نرى في الجوع الرفض للجدية التي تخيم على المدينة، رؤية تتسق مع كره همسون للحياة الاستهلاكية الجشعة؛ لذا يسخر منها ويخترع الأكاذيب للتحايل وخداعها. كان البطل يرتدي أقنعة متعددة للخروج من ذاته الحقيقية، ثم يعود لها. تلك الفكرة النيتشوية فرض بها على المجتمع حجاباً يحجز الوجه القبيح للعالم الخارجي، لكنها أيضاً تعكس استلاب البطل، ما يضيف ربكة وشعوراً بالحيرة، وربما بعض الدوار من تلك المتاهة السردية.

السخرية المنطلقة من الذات الجريحة، لا تبعد سهامها عن نفسها، فيرى البطل نفسه في وقت ما مهرجاً تعساً، يفتخر بجوعه الذي يعرفه. ذاك الشعور بالخطر ما دفعه للكتابة وفجر الإبداع بداخله. وحين فارقه لثلاثة أسابيع توقف عن الكتابة ونضب إبداعه، ولم يعد إلا عند العودة إلى خطر التشرد والجوع. 

ولكنه مع ذلك يرفض الحصول على مال ليس من حقه، رغم فقره يأبى العطايا التي لن تغير شيئاً من ذاته الساخرة من الامتلاك. والذي ترى أحياناً في وجهه ملامح من ديوجين الكلبي، حيث تفسر أفعاله حينها بأن الفضيلة واقع وليست آراء أو نظريات فقط.

يعرف نيتشه العدمية بأنها "نتاج تخفيض القيم السامية العليا لقيمتها الذاتية بنفسها". والبطل يعرف أن قيم مجتمعه فارغة من القوة الخارقة المنسوبة لها، ويتبين أنه ليس لها طابع تحريري. وعند تلك اللحظة يقف على شف العدمية، إما أن يقبل بما تفرضه العادات والقيم التي يصدرها الآخرون فيصبح عدمياً "خاملاً"، أو يخلق قيمه الخاصة عن طريق الذات القادرة على الرفض فيصبح عدمياً "إيجابياً". وبطل الجوع يسلك الخيار الثاني، وفي طريقه يسخر من المعنى خارج ذاته. وفي ذلك يطرق كل الأبواب ولا يدخل أحدها. 

في الخامسة والعشرين من عمره، حُكم على همسون بالموت حين تم تشخيصه بمرض السل، إلا أنه تم إعادة تشخيص المرض كالتهاب شعبي. وفي رسالة لإريك سكرام عام 1888، يصف ردة فعله "لقد ألهمتني برغبة يائسة في أن أذهب إلى بيت دعارة في المدينة وأُذنب، أُذنب بفخامة وأقتل نفسي بفعل ذلك. أردت أن أموت في الخطيئة، أهتف منتصرا وألفظ أنفاسي في الفعل". لكنه لم يفعل ذلك، وإنما تغذت روايته على رغبته في الخطيئة. نرى بطل الجوع يؤلف مسرحية عن راهبة، تمارس الجنس أمام الصليب في الكنيسة، يريدها قذرة قبيحة، حيث يعرض من خلال صورتها رفضه للأجوبة الميتافيزيقية التي يقدمها الدين للإنسان. وتلك صورة للسخرية والرغبة في تدمير القيم بمفهوم نيتشه "موت الإله".

بالنسبة لقصة الحب فلم يكن من المتوقع أن تكتمل؛ فالبطل الذي رسم حضوره معتمداً على الكبرياء والغرور لا يستطيع إخفاء هشاشته أمام المرآة، يريد أن "يركع أسفل قدمها" وهو في ذلك لم يعد يتمسك بتفوقه كما كان يفعل عندما حاول بمختلف السبل إخفاء معاناته وبؤسه، بل تظهر هشاشته، وتصبح رغبته في الركوع ومصارحة ليالي -كما كان يسميها- تناصاً مع حكمة المرأة العجوز في محاورتها لزرادشت، نبي نيتشه، حينما قالت "ليس هناك من شيء مستحيل لدى المرأة". ويمتد لقول نيتشه "لا تذهب إلى المرأة إلا ومعك السوط". لترى البطل يمنح السوط ليالي، كما منحه نيتشه للو سالومي.

رواية الجوع هي الإعصار الذي نقل الرواية الحديثة لمكان آخر، لم يرغب في كتابة عمل يفهمه النرويجيون فقط، بل "البشرية" كلها، وهذا ما حدث. قد ركز رسالته على اللاوعي، محاولاً كشف نقاب اللاعقلانية والعبثية في النفس البشرية.

ربما لا يكون هناك آدم للأدب، لكن الأدب النفسي قطع أشواطاً طويلة في أعمال همسون، بنظرة دقيقة لأغوار النفس البشرية، استهلت ثورة أدبية سردية، وقد كان يأمل همسون أن "نختبر القليل من الحركات السرية التي لم يلاحظها أحد في الأماكن النائية للروح، والاضطراب المتقلب في الإدراك، والحياة المرهفة للخيال تحت عدسة مكبرة. تجول هذه الأفكار والمشاعر في فراغ؛ رحلات بلا حراك، بلا مسار بين الدماغ والقلب، أنشطة الأعصاب الغريبة، همس الدم، توسل نخاع العظام، الحياة الفكرية اللاواعية بأكملها".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أشرف
كاتب وقاص مصري
كاتب وقاص مصري مهتم بالثقافة العربية وعلم الاجتماع وتقاطعاتهما مع عالم الرياضة
تحميل المزيد