في الماضي كنت أحاول تجنّب قراءة الروايات لأني أرى فيها مضيعة للوقت، لكنّ محبتي لها لم تمكنني من تركها، وفي أحد الأيّام وقعت في يدي رواية "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور والتي تدور أحداثها في غرناطة مصوّرة لنا الوضع الصعب الذي عاشه المسلمون بعد السقوط، ومن يومها تغيّرت نظرتي كلياً للروايات، ووجدت أنّه ليس جميع الروايات مضيعة للوقت، فالأعمال الأدبية المميزة من الممكن أن تطلعنا على أبعاد أعمق للحياة ونظرة شاعرية لتاريخنا المجيد، فأنا مثلاً لم أشعر بمعنى أن تسقط دولة إسلامية عظيمة، ولم أكن لأعرف مدى الألم والمعاناة التي عاشه المسلمون أثناء ذلك السقوط إذا اكتفيت بقراءة كتب التاريخ.
وعلى نفس المنوال اطلعت على تاريخ عمان والتغييرات التي حدثت في تلك البلاد منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أواخر القرن العشرين عبر رواية "سيّدات القمر"، وفي الواقع لم يكن اختياري لقراءتها عن إرادة لمعرفة ماضي عمان وحاضرها، ولكن كان هناك سبب وحيد وهو فضولي لمعرفة ما إن كانت الرواية تستحق الفوز الذي حصلت عليه في جائزة المان بوكر لعام ٢٠١٩، خاصة أنها أوّل رواية مترجمة من العربية تفوز بهذه الجائزة، ومنذ الفقرة الأولى الافتتاحية للرواية وجدتُ نفسي عالقة بها كأرنب ضئيل في فم ذئب، لم تأخذني الرواية بيدي هوناً إلى مجرياتها، وإنّما جرّتني بأقصى سرعة إلى الداخل، لأجد نفسي راكضة بتلهّف خلف الكلمات والفقرات منتشية بما فيها من وصف مبهر وأحداث كوميدية بعضها أليم، والكثير من الفقرات كنت أحتاج إلى قراءتها أكثر من مرة، ليس لفهمها أكثر، وإنما للاستمتاع بتذوقها والتلذذ بأسلوبها لأقصى درجة، كنتُ أعلق بين الكلمات والأحرف، وأتشبّث بها رافضة الرحيل عنها للفقرة التي بعدها، بل أريد أن أعيش فيها إلى الأبد، حيث إن أسلوب الكاتبة الفكاهي، فكاهة غير مبتذلة، لم أجد له نظيراً في رواية من قبل.
تدور أحداث الرواية الواقعة في ٢٢٣ صفحة في منطقة العوافي في دولة عمان، والقليل منها في مسقط، عبر الماضي حيث البساطة ووجود الرقيق وقلة الاهتمام بالعلم، والحاضر الأكثر تقدماً واهتماماً بالعلم وإحلالاً العبودية..
أثناء قراءتي للرواية التصقت بذاكرتي الكثير من العبارات والمواقف العفوية الجميلة الخالية من التكلّف وغير القابلة للنسيان، أشارككم بعضها هنا -وإن كان تذوقها الحقيقي يأتي من خلال قراءتها داخل السياق: (كان طويلاً لدرجة أنه لامس سحابة عجلى مرقت في السماء، ونحيلاً لدرجة أنّ ميا أرادت أن تسنده من الريح التي حملت السحابة بعيداً)، (أنا نجيّة.. يسموني القمر وأريدك أنت..)، (آه يا ظروف.. حلوة يا ظروف.. ناعمة يا ظروف).
عن الكاتبة
كاتبة الرواية جوخة الحارثي، هي أكاديمية وروائية عمانية حاصلة على الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة إدنبرة البريطانية، كتبت بالإضافة إلى رواية "سيّدات القمر" رواية "نارجة"، التي حصلت على إحدى الجوائز المحلية العمانية، ورواية "حرير الغزالة" التي صدرت عن دار الآداب للنشر في بيروت هذا العام (٢٠٢١)، أيضاً رواية "منامات" والكثير من القصص القصيرة والكتب الأخرى، وقد تمّت ترجمة أعمالها إلى الكثير من اللغات..
تسمية الرواية
الجدير بالذكر أنّ الرواية ركّزت بشكل أكبر على حياة النساء، وإن احتوت الكثير عن حياة الرجال أيضاً، أظهرت بوضوح المعاناة التي عشنها في الماضي والحاضر، قصص الكفاح، والحب، والانكسارات، والكيد، وربما لذلك تم تسمية الرواية "سيّدات القمر"، مع العلم أنه عند ترجمة الرواية إلى اللغة الإنجليزية لم تتم ترجمة نفس الاسم وإنما تمّ اختيار اسم آخر وهو (Celestial Bodies) أي: (الأجرام السماوية)، وسبب تغيير الاسم عند الترجمة هو: (أن الترجمة الحرفية للعنوان تعطيه صلة غير مرغوب بها بأشياء ثقافية في القرن التاسع عشر في إنجلترا عن نساء القمر: نوعية معينة من النساء، وهذه الصلة غير موجودة في الثقافة العربية)، حسب ما ذكرت الكاتبة في إحدى المقابلات.
الشخصيات
لا تدور الرواية حول شخصية محورية واحدة؛ وإنما العديد من الشخصيات، وتلك الشخصيات متفردة مننوعها ليست كتلك التي نراها مراراً وتكراراً في صفحات الروايات والأفلام، بل هي شخصيات نتعرف عليها للمرة الأولى، تمثّل واقعاً بشدة رصينة، للدرجة التي تجعل من غير الممكن التصديق بأنها شخصيات رواية وليست شخصيات حقيقية، فالتفاصيل التي تضعها الكاتبة، والوصف الخارجي والداخلي لكل شخصية يجعلها حقيقة، أي يحضرها الى الحياة، شعرت وأنا أقرأ الرواية كأنّ ظريفة امرأة عشت معها فترة طويلة، أستطيع أن أعرف رأيها في أي موضوع أقوم بمناقشته، أستطيع أن أميّزها من بين عشرات النساء، أستطيع أن أتعاطف معها، وأفهم ما تشعر به، وهي أكثر شخصية علقت في ذهني.
شخصيات الرواية بشكل عام متعددة وكل شخصية مختلفة تماماً عن باقي الشخصيات؛ هناك التاجر الذي لا يقدّر قيمة العلم، وهناك الدكتورة التي تمر بتجربة حب فاشلة، وهناك المرضى النفسيون، والمجرمون، هناك البدو والحضر، والعبيد والأحرار.
الحبكة
وإذا أتينا إلى حبكة الرواية فعندما قرأت تعليقات القراء العرب على موقع "القودريدز"، وجدت أن هناك من انتقد الرواية بسبب عدم وجود حبكة فيها، وقد تعجّبت لقراءة ذلك النقد، ففي الحقيقة وجدت في الرواية عدة حبكات للكثير من شخصيات الرواية المتعددة، حيث توجد لها الكثير من الأحداث، التي تبدأ بسيطة ومستقرة، ثمّ تتابع أحداثها وتصبح أكثر تعقيداً وتبلوراً، لكن لم تحصل جميع الشخصيات على حبكة فبعض الشخصيات تبدأ بوتيرة معينة وتستمر على نفس الوتيرة دون صعود أو نزول أو نتائج نهائية، لتكون نهاياتها متوقّعة في بعض الأحيان وصادمة في أحيان أخرى، وعلى كل حال الحبكات لم تُكتب بطريقة تقليدية، واذا تحدّثنا عن قوّة الحبكات ومدى شدّها للقارئ، فأنا لا أرى أنّ الحبكات قويّة جداً وجاذبة، وما جذبني في الرواية أكثر هو الأسلوب.
ضمير النص في الرواية
يوجد في الرواية ضميران: ضمير الغائب، وضمير الأنا على لسان أحد الشخصيات اسمه عبدالله، والذي يحكي معظم الأحداث من على متن الطائرة، وكانت الكاتبة تتنقل بين هذين الضميرين خلال فصول الرواية، ولأنّ أسلوب الكاتبة سلس وجميل كان من السهل جداً التنقّل بين الضميرين دون تشتيت أو ارتباك.
الخاتمة
وفي الأخير، رواية "سيّدات القمر" من وجهة نظري كقارئة رواية عظيمة، بالرغم من أنها ليست من تلك الروايات الملحمية، وأسلوبها السلس والفكاهي ممتع جداً وجاذب للقارئ الذي يحب الغرق فيما يقرأ، وهو ما شدّني عبر الأسطر بالنيابة عن الحبكة التي لم تكن بتلك القوّة، لكنّ الأسلوب قد غطّى دورها بجدارة وأنصح بقراءتها بشدة، وأُعطيها خمس نجوم، وأعتبرها من أفضل ما قرأت في الأدب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.