"بنقدم لكم دلوقتي مُطربنا العاطفي البُلبل الأسمر.. عبدالحليم حافظ"..
بكلماتٍ بسيطة وابتسامة جميلة قدمت (سعاد حُسني) عبدالحليم حافظ في إحدى الحفلات، والتي كانت في طليعة العندليب وفي بدايات حُبه لها، وقتها عبدالحليم بدأ يغني أغنية "الحلوة" ووجهه في غاية البشاشة والابتهاج، وكان يبدو عليه الشعور بسعادةٍ كبيرةٍ كأنه يغازل محبوبته على المسرح وهو يقول:
"الحلوة الحلوة الحلوة.. برموشها السودة الحلوة.. شغلتني ناديتني خدتني.. وديتني بعيد وجابتني".
وظل يغني بقلبه، ومن يهوى سماع عبدالحليم سيلاحظُ فعلاً حالةً فريدةً من نوعها في الفيديو المُسجل لهذا الحفل، وسيجدُ أن عبدالحليم كالمُنتشي بمُخدرٍ جميل، حتى كادَ يتحول لبُلبلٍ صداح سيطير فعلاً، وظل يتابعُ الغناء بابتسامةٍ لم تفارقه:
"والشوق الشوق غلبني.. الشوق كان هيدوبني.. لولا ضحكتها الحلوة.. وعدتني بحاجات حلوة.. الحلوة عنيك يا حبيبي".
سعاد كانت فاتنة، وهذه تقريباً أنسب الصفات لها، فعلى الرغم من ملامحها البسيطة والتي كانت مُكررة ويشبهها فيها كثير من البنات بل ويتفوق عليها بعضهن، فإنها كانت حالة استثنائية بروحها، وعبدالحليم كان هائماً في حُبها، العندليب كان "واقع" بالمعنى الحرفي للكلمة.
وبالفعل عرف الحُب الطريق إلى قلبهما، وحبهما هذا كان يُشبه السر الذي يقنُط بئراً، هو سر لكن الجميع يشرب منه ويعلمُ بهِ جيداً، لكن سرعان ما تبعتهما الخلافات وزادت بينهما، يُقال إن أسبابها أن العندليب كان يرغبُ في أن تعتزل سُعاد التمثيل، أرادها له وحده وهذا بالطبع كان شيئاً جميلاً لكن واجهته سعاد بالرفض والبُعد. وهناك أسباب أخرى أيضاً.
ومرت الشهور والسنون، وظل عبدالحليم مُتذكراً لمحبوبته، ليعود إلينا على المسرح بحالةٍ ثانية، حالة مختلفة كلياً ومعاكسة للحالة الأولى:
"أنا اللي طول عمري بصدق كلام الصبر في المواويل.. وأنا اللي طول عمري بقول الحب عمره طويل!"
وكان اسم الأغنية: "حاول تفتكرني".
يبدأ العندليب أغنيته في حسرة وكأنه يندب حظه، وفهمه الغلط، وهذه المرة كان مكشوفاً، بمقدورك أن تتفقد الدموع جيداً وهي تتمسكُ بعينه خوفاً من السقوط في أحد التسجيلات لحفل الأغنية، صوته الحزين كان يدُل على أن البُلبلَ فقدَ عشه وأهله وموطنه (فقدَ سُعاد)!
وبعد حالة الحسرة تلك، ينقلنا لحالةٍ أخرى في نفس الأغنية وهو يقول:
"والله لسه حبيبي… والله وحبيبي مهما تنسى حبيبي.. عمري ما أنسى!".
في رسالةٍ مباشرةٍ وصريحة لسعاد، وبحزن شديد يخبرها أن كل تلك الأيام لم تكن كافيةً لأن تهدم القصر العالي الذي شيده لها، ولا كانت كافيةً لتسكته عن طلبه، "أنا لك على طول خليك ليا"، وباختصارٍ شديد أنها مازالت الشخص الذي لا يُسكن مكانه.
ثم يُتابع: "ولو مريت في طريق مشينا مرة فيه.. أو عديت في مكان كان لينا ذكرى فيه.. ابقى افتكرني.. حاول تفتكرني".
دعي الطُرقِ تذكرك يا سُعاد بأننا مررنا من هنا سوياً يوماً، لا توصدي الباب أمام ذكراي يا سُعاد، وحاولي.. حاولي بكل كد وقوةٍ أن تتذكريني. هذا عبدالحليم وهذا ما أراد أن يقوله بكل تأكيد، ليتابع بعدها ويشرح كيف أن أيامهما الماضية كانت كل قُوتِه الذي يقوى بهِ على مرارةِ القادم دونها.
"ومنين نجيب الصبر يا أهل الله يداوينا.. اللي انكوى بالحب قبلينا يقول لينا.. وسافر من غير وداع".
يعودُ مرةً أخرى ليتحدث عن رحيلها الذي جاء بدون أدنى مقدمات، البُعد والمسافات التي جعلت كل واحدٍ منهما في مكانٍ لا يوجد بهِ صوت الآخر ليبعث بكلام ويقول: "أي كلام من قلبك أو من ورا قلبك"، ويتساءل مرة أخرى: "بعدنا بعدنا ليه؟ تعبنا!.. قول من إيه قول قول.. من الشك يا عنيا.. يا عنيا.. من كلمة قالوها عليا.. من الغيرة يا عنيا.. دي الغيرة ياما عملت فيا".
يعترفُ عبدالحليم أن مثله مثل كل من وقع، الغيرة وكثرة التفكير وكم السيناريوهات التي يصنعها عقله أكلت دماغه، وأخذت من قلبه الذي هو في الأصل مع سُعاد، ويروي لنا ويقول: "ياما أيام ضاعت يا سلام.. في عذاب وآلام سهران ما بنام.. قضيت الليل مع قمر الليل ونجوم الليل نحكي في كلام".
من ثم ينقلنا إلى حالةٍ أخرى وهي حالة الموهمِ بالأمل، وهو يقول: "تعالى.. تعالى.. تعالى.. تعالى.. تعالى.. ليه نقول إن الفراق مكتوب علينا والحياة قدامنا.. ليه نسلم نفسنا لليأس ونقول اتظلمنا؟ ليه نقول اتظلمنا؟".
لماذا لا ننسى خلافاتنا؟ لماذا لا نهد السور الذي بنيناه حاجزاً بيننا دون النظر في أي شيء، أن نختارنا فقط، نختار سعادتنا! لماذا لا ننهي الصعب بيننا ونكُف عن إرهاقِ أرواحنا البريئةِ بأيدينا. وبعد ما يُمني نفسه بأمنية الرجوع تلك، يعودُ ليسأل نفسه مرةً أخرى ومرّات لا حصر لها: "إمتى سُعاد تلبي دعوة عبد الحليم؟!"، "ومنين نجيب الصبر؟!".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.