عزيزي القارئ الجاد..
في مرحلة ما قد تكتشف أن الشخص الذي يجد ذباباً أمام وجهه يتشاكل معه بلا مبرر شخص محظوظ، إذ وجد كائناً حياً يحق له أن يناكفه دون قلق على مشاعره ودون إحساس بالضيق من جدال كهذا، حتى لو كان ذلك الكائن الحي مجرد ذبابة. ويمكن بسهولة أن تجد جماداً تنفس فيه حنقك، ذلك سهل للغاية، كوب تكسره، جدار تحطمه، حتى لوحة فنية ترسمها بألوان تعكس كل الغضب داخلك لتغدو فيما بعد شيئاً جميلاً.
في بعض الأحيان عزيزي قد لا تجد شيئاً سوى الفراغ تحدثه، تخلق عالماً من الشخصيات الخيالية، ترسم ملامحها على الورق وتحدثها قليلاً، ثم ما تلبث أن تختفي تاركاً الساحة لهم ليحدثوا أنفسهم وأنت تتجسس، وأي متعة أجمل من أن تراقب صراعات الآخرين دون أن تكون معنياً بالتدخل، لربما لذلك يحب الساديون مباريات المصارعة. لحظة هل يحب الساديون فعلاً المصارعة؟! لا أعلم، لكن ما المهم؟ أنا هنا أهرتل في الكلام، أصنع الوهم وأبيعه لك تحت مسمى الأدب أو الفن.
أتعلم عزيزي أن أجمل ما في القصص كونها نسخة عن سادية الكاتب الذي زاره شيطان الفراغ فقرر أن ينتقم من أولئك المشغولين بحياته بطريقة أكثر عذاباً لهم وأكثر لذة له؟ قرر أن يلهيهم عن أنفسهم بشخصيات تشبه غيرهم، غيرهم الذي يكرهون أو غيرهم الذي يتمنون، أو أن يدخل إلى عقولهم تحت مسمى الشعر فيسمي الجمال طبقاً لمفهومه هو لا طبقاً لمشاعرهم هم، أن يتغزل في نواقصهم تحت بند المدح أو أن يعري نفس النواقص تحت شعار كشف الحقائق دونما شعور منه من خوف المواجهة أو تحمل مسؤولية الأذى الذي سيلحق بعقل أحدهم إن صدق كل الترهات الموجود في روايته أو بقصيدته.
أتعلم أن أغلب الكتاب الحقيقيين فارغون، وحيدون وحدة غيمة مثقلة بالهموم في سماء صافية قررت أن تنتقم من حبيبين يفترشان العشب فأمطرت ماءها لتفسد نزهتهما، وهما من فرط السذاجة استمتعا بذلك الانتقام؟ الكتاب الحقيقيون في أغلب الأحيان يكتبون لأنفسهم ليس للجمهور، يحررون ذواتهم من حنقها كي يستطيعوا أن يكملوا مسيرة حياتهم البائسة، يحررون أنفسهم ويثقلون غيرهم بتلك الهموم.
ليس العجيب أن تغدو هموم الكاتب في مرحلة ما مادة فلسفية تستحق النقاش، لكن العجيب فعلاً أن تناقش تحت هموم مجتمعية عكسها الكاتب العبقري! كأن الفراغ عبقرية.
*****
يقولون إن الروائي الناجح فيلسوف أجهض في رحم الحياة فصار كاتباً! لربما كان كذلك فعلاً، هو جنين ميت بحق، محض فيلسوف حاول أن يبحث في الحياة فصدمه السؤال مرة عن حقيقة الدين وأخرى عن وهمه! وبين المتضادين بحث عن جوهر الحقيقة، عن شيء واقع بين الوهم والتطرف في الفهم! بحث عن حقيقة الدين حينما لم يجد ما يروي ظمأه، حقيقة الحب حين انهار قلبه أمام رغبة بريئة في ابتسامة ثغر أدمن السكوت عن غزله بقدر ما أجاد مغازلة الآخرين، حقيقة السياسة حين صدمه المجتمع ورفض طوبائيته.
الفيلسوف شخص فشل أمام معضلة فبحث عن حقيقة الحل! أما الكاتب فهو من فشل فشلاً مزدوجاً، فشل في أن يكون فيلسوفاً وأن يجد جوهر الحقيقة فخلق وهماً، وضع معضلاته هو وحلها بنفسه ليصنع لنفسه مجداً زائفاً تحمله أكتاف شخصيات وهمية لا تمت لجوهر الحقيقة بصلة.. أليست تلك هي الحقيقة؟
حقيقة كل كاتب يكتب قصة ليس لها أي علاقة بالواقع، عن جنرال يعاني فتقاً في مكان ما من جسده، أو أب قرر أن يحول الرصاص إلى ذهب فجن لكن سلالته أنجبت أول طفل بذيل خنزير على وجه الأرض!
كاتب آخَر كانت صراعات بلدته تأكل روحه فقرر أن يحاجج الإله في روايته ولم يكتف بذلك بل حاجى من أرسلهم الإله. كاتبة أخرى تلك التي جرحها وطنها بخنجر الحرب كثيراً قررت أن ترسم الأنثى كما أرادت، تتجول بين الأسِرَّة وتتفاخر بذلك، أي جمال في الخيانة؟!
لا شيء لذا يجب أن نسميه حباً عشقاً شغفاً، أن نجد مبرراً فلسفياً للفشل في احترامنا للعفاف فنلبسه حين نخون أشياء أكثر فخامة، نزين وجه الفشل بمزيد من مستحضرات الشوق ونمنح عينيه شيئاً من بريق الحزن، الحزن دائماً يكسب صاحبه شيئاً من وقار، الآن باتت الصورة أكثر روعة، باتت الخيانة أكثر تقبلاً من ذي قبل.
هي امرأة حزينة زوجها جنرال سيئ، زارها العشق في أروع صوره فانتقمت لوطنها من الجنرال بأن تخونه مع رجل آخر في فراش آخر! أليست مناضلة؟! هي مناضلة فعلاً، مناضلة سرير، وهل هنالك نضال أجمل من ذلك؟!
نعم هنالك ما هو أجمل أن يكون بطل الرواية مناضلاً ضد الإله، بمعنى أصح ينتقم من الآلهة التي تركته وحيداً يذبح بسكين بارد كقربان يروي عطشها في عالم مليء بالترهات الفكرية والمشاكل الإنسانية، لماذا لم تتدخل الآلهة حين ذبح الصبي؟! هكذا حدث نفسه، لماذا لم يظهر الرب جبروته وتركه هائماً يصارع وحده؟ هكذا تساءل.
لماذا ولماذا ولماذا؟ في خضم كل هذا قرر أن ينتقم، أن يحرق كل السفن بينه وبين الحياة، أن يحرق الحياة نفسها، ألم يخلق الرب هذه الحياة البائسة؟! إذاً سأحرقها هكذا قال أو هكذا صاح بطل الرواية الشهيرة.
أشهر القصص مبنية على ثنائية الانتقام المبرر حتى وإن كان من الخالق..
الكارثة يا عزيزي أن كاتبها لربما لم يعِ أنه يسمم العقول، أنه يدفع كل حانق على حياته إلى صراع صفري مع خالق تلك الحياة، لربما كان الكاتب أبسط من أن يتخيل أن كلماته ستصنع ذاك الصراع، أو لربما كان أخبث مما نعتقد، فقاد الجموع الثائرة على وجع الحياة إلى حرب تمنى أن يقوم بها لكن من فرط جبنه لم يستطِع! في الحالتين قد أثر فيك أو في شخص آخر بعض الشيء لكن ماذا لو أدركت عزيزي القارئ الجاد أن الروائي يفرغ شيئاً من الفراغ في القصة كي يسلي نفسه؟
ماذا لو حدثت نفسك بأن الحياة الحقيقية ترويها جذوع الأشجار أكثر بكثير من أبيات الشعر المغنية وصفاً في جمال الربيع!
ماذا لو انتحلت شخصية الكاتب؟ وكتبت كثيراً من الهراء حول وصف أنصاف الأكواب المليئة بالعسل المر المزينة بالعقيق الأحمر المقدمة للملكة سرينويلا (ملك صورنياتا الغارقة) كترياق يحارب ديدان الأمعاء؟
آخر سطر محض هراء! من سرينويلا ملك صورنياتا الغارقة؟!
لا أعلم لكني أعلم جيداً أنه يمكنك عزيزي القارئ أن تبني قصة وهمية رائعة على هذا السطر.
القصص الوهمية سهلة سلسة يكفي أن تصف باستفاضة، أن تغرق الجمهور في التخيل، أن تستخدم جماليات اللغة من استعارة أو كناية، أو حتى أن تستخدم ألفاظاً غريبة ليست من اللغة في شيء.
يكفي أن تحوم حول اللاشيء، تسطر ترهات هنا، تصنع أوهاماً هناك، استمر في ذلك بضع وسبعين صفحة ثم التفت إلى جمهورك الذي يحاول جاهداً أن يفهم كل ذلك، أن يفهم ما لم تفهمه أنت وأخبره بحبكة درامية، كأن تكون الملكة تلك تزوجت من جنرال في جيش الجن فأصابتها لعنة الدود، هي تتعفن داخلياً كما تسببت في تعفن مملكتها داخلياً حينما أدخلت الجن إليها من أوسع الأبواب.
استمر في العظة وضع بضع قصص عن الحب، القراء سيحبون ذلك، اذكر شيئاً عن حامي النار المقدسة، القراء أيضاً يحبون الأشياء الميتافيزيقية حتى ولو كانوا ملحدين، لا مانع من أن تخرج عن النص وتسقط إسقاطاً مباشراً لمشاكلك، فشلك مثلاً في الزواج، اجعل ذلك سبباً لخيانة الملكة (الملكة تخون المملكة لأنها لم تجد رجلاً يحبها فيها، وحدهم الجن من قدروها)، أو عوزك المادي، يصلح أيضاً سبباً للخيانة (فطمع الملكة في كنوز الجن دفعها للخيانة).
سوف تجد مدخلاً لغرس مشاكلك دون أن يدري الجمهور عن ذلك شيئاً، ضع عن أكتافك الأحمال وألبسها لهم اجعلهم يفكرون في حقيقة الملكة ومن أين أتى الدود؟ هل هي ظالمة أم مظلومة؟ هل هي جانية أم مجني عليها؟ واختم دائماً الفقرات بسؤال عن الدود؟ أكسب النص شيئاً من الضبابية، حاول أن تبدو فلسفياً أو أخلاقياً بعض الشيء، اجعل قارئك مثلاً يدرك حتمية الكارما، ربّه كما تحب، الجماهير يحبون ذلك والنقاد سيتحدثون عن عبقريتك في زرع الأخلاق الحميدة والدعوة لها لسنين. كن واثقاً من هرائك.
تحدث عزيزي بكلمات مبهمة عن صفاء شمس المملكة ذات اللون القرمزي أو عن جمال العشب الفحلقي، هل هناك لون اسمه فحلق؟! غير مهم من يكترث! أنت هنا تتخيل، وأجمل ما في الخيال أنه لا يحق لأحد أن يسأل أسئلة منطقية حوله، استمر عزيزي وثم أنهِ قصتك كما تريد إما بانتصار الدود أو بانتصار الدواء، في جميع الحالات النهائية لا تعني شيئاً إذا ما قورنت بمئتي صفحة قد كُتبت في وصف الدود السابح بين أعضاء الملكة، ما أردت أن تقوله قد قلته، خلقت الشخصيات، ألبستها ما تحب من الملابس، قصصت شعرها أو أطلته، وزعتها في الفراغ كما تتخيل، جعلتها تتكلم وقتما أحببت تصمت في وقت آخر.
فعلت كل ذلك وقد تسليت كثيراً، هأنت الآن منفصل تماماً عن واقعك الفارغ أو المليء بمشاكل تعيقك عن الحياة إعاقة تجعل الحياة والفراغ شيئاً واحداً.
هأنت ذا قد صنعت لعبك كما يصنع الأطفال ألعابهم ودُماهم، ولعبت كما تريد، لكن هنالك مرحلة أجمل تنتظر على عكس الأطفال الذين تنتهي متعتهم متى انتهت مسرحيتهم، لكنك عزيزي تتضاعف متعتك حينما يقرأ غيرك هراءك! حينما يتجادلون على جماليات أو قبح ما كتبت، أو حينما يبكون من وقع الصدمة أو جمال الكلمة، الأروع صدقني حينما يخبرك شخص ما أن كتاباتك تعكس حياته. ساعتها ستشعر أنك لم تتلاعب فقط بالشخصيات الوهمية بل بالأحياء أيضاً.
وكي تسبك الدور سوف تدعي أن مأساة صديق هي التي أوحت لك بالقصة، أو أن حلماً زارك في ليلة صيفية مقمرة قادك لذلك النص، سوف تكتم ضحكتك وتداريها إن كنت تدرك أنك تقدم الهراء وتبيعه، لكن المأساة الحقيقية عزيزي القارئ الجاد أن تحولك الكتابة إلى كاتب واهم، أن تعتقد كما اعتقدت الجماهير أنك فعلاً شخص رائع، ساعتها (تتلبسك) شخصياتك الوهمية، وستغزو الديدان داخلك كما غزت الملكة تلك، من قال لك أن تصدق شيطان النص وتؤمن به؟ هذه لعنتك عزيزي، سيأكلك الدود كما أكل ملكتك الوهمية، فإن كانت هي وهمية فأنت واهم. من يعلم؟ لربما ستنجو من كل هذا وتتحول أخيراً من قارئ جاد لكاتب ناضج، تخبرنا بما تريد، تنزع عن كاهلك حمله وتحملنا إياه دونما اكتراث.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.