زمان عندما كنت مهتماً بـ"مدرسة التفسير الأدبي" بدأت أجمع أشياء كثيرة عنها، منها ما كتبه طه حسين وأمين الخولي وسيد قطب. ولكنني كنت كلما ذهبت إلى دار الكتب لا أجد كثيراً مما كتبه سيد قطب في مظانِّه؛ فالمجلات إما ممزقة أو في الترميم أو مفقودة إلخ. وأذكر أن صديقاً أكبر مني حكى لي مرة، أنه كان تلميذاً وقت إعدام سيد قطب وأن المدرسين مرُّوا على فصله وطلبوا من الجميع قطع صفحة بها قصيدة لسيد قطب وتسليمها لهم. وبعد ذلك عرف أنهم فعلوا هذا مع كل الفصول ثم كل المدارس. وهنا فهمت لماذا تختفي كثير من صفحات نصوص سيد قطب من مجلات دار الكتب، بل تختفي بالكامل بعض المجلات التي كان رئيساً لتحريرها مثل مجلة "العالم العربي" من سنة 1947 وكانت شهرية، ومجلة "الفكر الجديد" من سنة 1948 وكانت أسبوعية، وكلتا المجلتين من النوادر الآن.
وفي أحد أيام 1994 عندما بدأت أيأس من العثور عليهما، فوجئت بصديق قديم لي اسمه نورالدين ساعي البحر، يزورني ومعه مجلد ضخم يبدو عتيقاً، وقال لي إن معه شيئاً يهمني ويريد أن يبيعه لي. وكانت مفاجأة كبرى، لأن المجلد يحوي كل أعداد مجلة "الفكر الجديد" التي كنت أراها للمرة الأولى. سألته عن مصدرها فقال: "لا تعليق"، ولكنه يريد فيها "مئة جنيه". لم يكن المبلغ كبيراً ولكنني كنت مفلساً. فقال: "لا بأس سأبحث عن مشترٍ آخر. ولكن هل يمكن أن أحفظ المجلد عندك حتى أجد من يشتريه". فقلت له: "يا سلام! أنا في الخدمة لكن بشرط أن تسمح لي بقراءة المجلد ونقل ما أريد منه"، فوافق.
وبقي المجلد عندي عشرة أيام ثم أخذه. ولما توفر لي المبلغ سألته عن المجلد، فقال إنه باعه بالفعل. لم أحزن كثيراً، لأنني كنت قد عكفت تلك الأيام العشرة على نقل وتلخيص كل أعداد المجلة في 76 صفحة (فلوسكاب)، سجلت فيها كل شيء تقريباً، المقالات والقصائد والحوارات وعروض أحدث الإصدارات آنذاك وحتى الإعلانات، لأنها تعبر عن الممولين غير المباشرين!
ومما أدهشني آنذاك أن صاحب امتياز المجلة هو محمد حلمي المنياوي، صاحب دار العربي للطباعة والنشر، وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين! أي إن سيد قطب كان على صلة ما بالإخوان منذ هذا التاريخ المبكر، أي قبل سفره لأمريكا، وقبل أن ينضم للجماعة بشكل رسمي في سنة 1953.
ومن الأمور المدهشة أيضاً، عدد الكُتاب الشباب (من مصر والعالم العربي) الذين استقطبهم سيد قطب للكتابة في المجلة مثل نجيب محفوظ وسعد مكاوي وأحمد عبدالغفور عطار وعيسى الناعوري وحبيب جاماتي وصادق إبراهيم عرجون والتيجاني يوسف بشير وعبدالحميد يونس وأحمد حسن الباقوري وعبدالحليم منتصر ومحمد الغزالي وكان آنذاك طالباً في كلية أصول الدين. وعلاقة الغزالي الشاب بسيد قطب غريبة بالفعل وتحتاج كتابة خاصة. لكن ليس وقتها الآن.
أما المفاجأة المعبرة فهي أن حوار العدد الأول للمجلة (يناير/كانون الثاني 1948)، كان مع طه حسين شخصياً. وهو حوار نادر وغير موجود في ببليوجرافيا طه حسين، وكان بعنوان "لحظات مع الدكتور طه حسين بك"، وستجدونه في نهاية هذه المقالة.
وكنت أظن مثل كثيرين وجود نوع من العداء أو المشاحنة بين سيد قطب وطه حسين. ولكن هذا مجرد وهْم وتخيُّل مبنيّ ربما على تقييمات مشوهة للمرحلة الأخيرة من حياة سيد قطب. ولكن عندما نرتب ما لدينا من وثائق أو مصادر (ومنها هذا الحوار النادر الذي نقدمه هنا)، نتبين وجود علاقة حسنة مبنية على التفاهم والتقدير، خاصة بعد أن شرع سيد قطب في استقلاله الفكري والأدبي عن العقاد، أستاذه الأول كما كان يسميه.
ويمكن الزعم بأن هذه العلاقة بدأت في منتصف الثلاثينيات، أي قبل عدة سنوات من نشر سيد قطب نقده لكتاب "مستقبل الثقافة في مصر"، وهو كتاب مهم أصدره طه حسين في سنة 1938. أما نقد سيد قطب للكتاب فقد نُشر بدورية دار العلوم في أبريل/نيسان من سنة 1939.
ومنذ بداية النقد بدا سيد قطب معجباً بالكتاب رغم أنه يشير إلى أن طه حسين يخطئ ويصيب وهذا هو الطبيعي! ثم يعرض سيد قطب للكتاب فصلاً فصلاً، ويتتبع استطرادات طه حسين وقفزاته الذهنية، ويوافقه في بعضها ويخالفه في أخرى. فقد خالفه على سبيل المثال، في أن مصر أمة غربية، وفي أن الإسلام لم يؤثر في العقلية المصرية التي هي عقلية يونانية، ويجزم قطب بأن القرآن وضع العقل المصري، والعقول التي خضعت له، في نطاق معين هو نطاق التشريع القرآني والنظام الدنيوي للقرآن (ص 23). ويرى أن ما نعانيه من اضطراب بين الحضارة الأوربية المادية وعقائدنا وتقاليدنا أكبر دليل على أن عقلية المصريين غير عقلية الأوربيين.
وكذلك عارض دعوة طه حسين إلى الأخذ بالحضارة الغربية كضرورة زمنية لابد منها، وأهمية أن نأخذها كلها، كما فعلت اليابان، دون تردد أو تلكُّؤ، وبلا انتقاد أو تمحيص أو اختيار. ويمكن أن أصف معارضة قطب هنا بأنها معارضة جزئية، وهذا ما يتضح في قوله:
"وأيسر ما يحقق رغبة الدكتور في الأخذ بالحضارة الأوروبية، ويحقق رغبتنا في الإبقاء على مميزاتنا الذاتية، أن نحلل هذه الحضارة إلى عنصرين: الثقافة والمدنية.. ونعتبر الثقافة شاملة لديننا، وفنوننا، ونظمنا الخلقية، وتقاليدنا، وخرافتنا كذلك. وهذه يجب أن نحتفظ فيها بماضينا، ونجدد فيها بمقدار ما تتطلب سُنة التطور الطبيعي. ونعتبر المدنية شاملة للعلوم والفنون التطبيقية، وتلك نأخذها من أوربا أخذاً.. وهذا هو ما صنعته اليابان" (ص 30).
وهذا الرأي الذي نادى به سيد قطب الشاب ما زال يتكرر حتى الآن بالصيغة نفسها تقريباً.
وكان طه حسين بدوره يفهم شخصية سيد قطب جيداً، وقد لخص ذلك بدقة حسب رواية لأحمد عبدالغفور عطار (مجلة كلمة الحق، ع 2، مايو 1967)، بأن "في سيد قطب خصلتين، هما: المثالية والعناد، وهو ليس مثالياً فقط، ولكنه مثالي في المثالية".
وكان العناد بالفعل إحدى الصفات المميزة لسيد قطب؛ حيث روي كثيراً أنه كان لا يقبل النصيحة حتى من أقرب الناس إليه، وأنه إذا غضب لا يلين إلا من تلقاء نفسه. زِد على ذلك أن المثالية صفة غالبة بالفعل على نتاجه وحياته، وربما لهذا ما زال له مثل هذا التأثير على الأجيال الشابة التي تميل إلى المثالية بطبيعة مرحلتها العمرية.
ولذا يبدو لي توصيف طه حسين لنفسية سيد قطب دقيقاً وناتجاً ولا ريب، عن معرفة عميقة بسيد قطب. ولم لا وقد كان مسؤولاً عن سيد قطب في وزارة المعارف مدة عامين كاملين؟
وشرح ذلك أن سيد قطب، وكان مدرساً بوزارة المعارف، نُقل في مارس/آذار من سنة 1940، إلى إدارة مراقبة الثقافة العامة بديوان الوزارة.
وبعد حادث 4 فبراير/شباط سنة 1942، فقدَ سيد قطب ثقته بحزب الوفد الذي تواطأ رئيسه (؟) مع الاحتلال الإنجليزي لتشكيل وزارة وفدية جديدة. ولذا ترك سيد قطب الوفد والتحق بالسعديين (الطليعة الوفدية) برئاسة أحمد ماهر. وكان سيد قطب شديد الإعجاب به.
وبعد هذا مباشرة بدأت متاعب سيد قطب مع وزير المعارف (أحمد نجيب الهلالي). وآنذاك عُين طه حسين مستشاراً فنياً لوزارة المعارف، وأصبح كما سبق، رئيساً لسيد قطب مدة عامين (1942-1944).
وفي يوليو/تموز من سنة 1944، كلف وزير المعارف، سيدَ قطب بمهمة تفتيشية في الصعيد مدة شهرين. فغضب سيد قطب واعتبر الأمر نفياً وليس تفتيشاً، وكاد يستقيل لولا تدخُّل طه حسين، الذي أقسم على قطب بأنه لن يفعلها وهو في الوزارة. وقال له كما حكى سيد قطب في مقال بـ"الرسالة" سنة 1946: "دع لي الأمر، وسأُحدث أزمة من أجلك لو اقتضى الحال".
وكانت نتيجة جهود طه حسين أن رجع وزير المعارف عن عزمه على نقل سيد قطب مفتشاً بالتعليم الابتدائي بالصعيد، ولكنه أصرَّ على قيامه بمهمة التفتيش المكلف بها، وأن يكتب تقريراً شاملاً عن دراسة اللغة العربية في مدارس الصعيد واقتراحاته لإصلاح هذه الدراسة.
وظنّي أن هذا الموقف النبيل من طه حسين كان ذا تأثير كبير على سيد قطب فيما بعد ذلك. ولذا عندما نشر سيد قطب كتابه "طفل من القرية" (1946) أهداه إلى طه حسين قائلاً:
"إلى صاحب كتاب الأيام.. الدكتور طه حسين بك. إنها -يا سيدي- أيام كأيامك، عاشها طفل بالقرية، في بعضها من أيامك مشابه، وفي سائرها عنها اختلاف. اختلاف بمقدار ما يكون بين جيل وجيل، وقرية وقرية، وحياة وحياة؛ بل بمقدار ما يكون بين طبيعة وطبيعة واتجاه واتجاه.. ولكنها -بعد ذلك كله- أيام من الأيام".
وفي يونيو/حزيران من عام 1947، نشر طه حسين في "الهلال" مقالاً بعنوان "كما أنت.. أيها الصديق". ورغم أنه لم يذكر اسم سيد قطب، لكن من يقرأه حتى الآن يظن أنه ربما عنى سيد قطب؛ وذلك بسبب دقة توصيفه لعناد هذا الصديق الذي يعاتبه.
وقد ردَّ عليه قطب في مجلة "العالم العربي" التي كان يشرف عليها، بمقال طويل تحت عنوان "بدء المعركة.. الضمير الأدبي في مصر: شبان وشيوخ"، ولكن المعركة اقتصرت على مقال فقط. ورغم أن سيد قطب كرر اتهامه لشيوخ الأدب بأنهم تخلوا عن أمانتهم ليس لجيل الشباب فقط ولكن للوطن وللمجتمع، فقد أنهاه بقوله: معذرة يا سيدي الدكتور، عما يكون قد أفلت من قلمي من عبارة قاسية، أو كلمة غليظة. فالله يعلم كم جاهدت نفسي لأعرض القضية هذا العرض الهادئ البريء!".
وفي هذا السياق من التقدير والتبجيل يأتي حوار سيد قطب مع طه حسين. ورغم قصره فإنه نُشر على مرتين، في يناير/كانون الثاني 1948 وفي نهاية فبراير/شباط من العام نفسه، وسأقوم هنا فقط بالجمع بين الجزئين كما يلي:
– "ما الكتاب الذي وجَّهك وأثَّر في حياتك؟
= أول كتاب قرأته وأثَّر في حياتي هو القرآن ولم يزل يؤثر في حياتي حتى الآن، وثاني كتاب هو "لزوميات أبي العلاء المعري" الذي اتخذته موضوعاً لرسالة الدكتوراه في الجامعة المصرية القديمة. ونوقشت في هذه الرسالة في 5 مايو/أيار سنة 1914 قبل أن أسافر إلى أوروبا. وقد اختلفت عليّ ظروف الحياة منذ سافرت إلى أوروبا ومنذ حدثت الأحداث الخاصة والعامة في مصر وفي غير مصر، وهي التي يتأثر بها الناس جميعاً، ولكني ما زلت إلى الآن على رغم هذا، متأثراً أشد التأثر بأول كتاب عرفته وهو القرآن، وبثاني كتاب أحببته وهو اللزوميات.
وما هي مطالعاتك المفضلة؟
أما مطالعاتي المفضَّلة، فالكتب العربية القديمة، خصوصاً كتب القرنين الهجريين الأول والثاني؛ لأن الانتقال إلى ذلك الماضي يريحني وينعشني. وأحبُّ تلك الكتب القديمة إلى نفسي [كتب] الطبقات. وأحبُّ هذه إليَّ "طبقات ابن سعد". ورغم قراءتي الكثيرة فيها، فإني لا أشعر بسآمة، ولا ملل، لأن لغتها في غاية العذوبة، وموضوعاتها في منتهى الدسامة. فمثلاً حين تطالع ترجمة لعمر تجد عرضاً بارعاً يثير العاطفة الفنية، سواء في ذلك موقف عمر من رعاياه أو موقف الرعايا معه. ومن مميزاته، في نظري، أنه لا يُعتبر من القُصاص الذين يتلقون الروايات الضعيفة ويروجون لها، بل هو من النقاد الذين يمحصون رواياتهم. وأراه أبعد ما يكون عن "مدرسة الواقدي".
ويذكّرني السؤال عن مطالعاتي المفضلة بشيء تجد فيه نفسي طرافة، ففي عام 1944 سافرت إلى لبنان واستصحبت معي كتابين.. كنت أستريح من أحدهما للآخر، وأستريح منهما معاً للإملاء. أما الكتابان فهما: "مختصر البخاري" للزبيدي، و"مختارات من لينين". وأما الذي استرحت إليه منهما فكتابي الذي أمليته يومئذ: "شجرة البؤس".
– هل تنأى مطالعتكم المفضلة عن الكتب الحديثة؟
= إني أقضي معها وقتي من الغداء إلى الساعة الخامسة كل يوم، لأكون فقط على اتصال بالحركة العقلية في أوروا، لأن الذي يقف مع الحياة الفكرية في مصر فقط يصبح كالماء الراكد.
– وسألت المجلة الدكتور طه حسين بك عما صنع وماذا ينوي صنعه لتحقيق العدالة الاجتماعية الضائعة؟
= لم أصنع ولن أصنع سوى تبصير الشعب بحقوقه المشروعة، والمطالبة بما ينبغي له من العدل والمساواة.
– وهل هذا يكفي؟
= وماذا أستطيع أن أفعل غير هذا؟ هل كنت تتوقع أن أجيبك بأكثر من هذه الكلمات؟ (ثم ضحك وقال): إن خير الكلام ما قل ودل، فلا داعي للإطالة في هذا الموضوع ما دامت الكلمات القليلة تكفي للتعبير عن المعنى المطلوب". (ا.هـ)
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.