اتفق عقلاء الإنسانية منذ القدم على إثابة المُحسن ومعاقبة المسيء، فلم يكن من الصعب عند الأقدمين والمتأخرين إقرار مكافأة المحسنين أو على أقل تقدير لم يكُن بصعوبة إقرار العقوبة المناسبة لكل جريمة على حدة.
وكلما وضع قوم قوانين وعقوبات للمذنبين والمجرمين، أتى قوم بعدهم ليخففوا أحكام بعضها ويشددوا أحكاماً أخرى. بل قد اختلف أهل العصر الواحد في صياغة العقوبات بعد وقوعها، لذا لجأت الشرائع والأمم لوضع عقوبات للجرائم الشائعة في المجتمع مسبقاً، لكي يرجع إليها القضاة عند محاكمة شخص ما قد ارتكب جريمة معينة.
وقد اختلفت الشعوب والأمم في تعريف بعض الجرائم، فنجد مثلاً أن تعاطي بعض المخدرات وإقامة علاقات جنسية بالتراضي لا يعتبر جريمة لدى بعض الشعوب والدول، في حين تعده بعض الدول من أشد الجرائم وعقوبته مغلظة.
هل يستحق المذنب الرجوع للحياة الطبيعية؟
إن الإنسان شئنا أم أبينا معرض لارتكاب الأخطاء، وقد يتعدى على أخيه الإنسان ويرتكب في حقه الجرائم، لذا كان لا بد من وضع وتشريع العقوبة كزاجر وناهٍ لمثل تلك التعديات.
لكن ارتكاب الأخطاء وبعض الجرائم لا ينفي كون المذنب إنساناً لديه القابلية للإصلاح والهدى. ومثال ذلك فِي الصَّحِيح عَن عمر رضي الله عنه: (أن رجلاً كَانَ يشرب الْخمر وَكَانَ كلما أُتي بِهِ إلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أمْر بجلده، فَقَالَ رجل: لَعنه الله؛ مَا أكثر مَا يُؤْتى بِهِ إلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "لَا تلعنه فَإِنَّهُ يحب الله وَرَسُوله"). هنا وضح الرسول الكريم للصحابة أن وقوع الشخص بالذنب مراراً لا ينفي وجود بذرة صالحة بداخله وأنه لا يستحق اللعن أو الطرد والتمييز في المجتمع.
هل يكمن الحل في العقوبات المغلظة؟
من خصائص العقوبة أن تكون مناسبة للجُرم المرتكب ومدى إصرار المجرم على ارتكاب الجريمة، فلا تتجاوز حجم الجريمة ولا تقل عنها. فمن غير المعقول أن تكون عقوبة تجاوز إشارة المرور الإعدام أو الحبس المؤبد، وفي الوقت نفسه يجب أن تكون رادعة فلا تكون سخيفة مما يشجع على تكرارها.
تمتاز العقوبات المغلظة بكونها رادعة، مما يجعل منتوي ارتكاب الجريمة متردداً في ارتكابها، لكن للعقوبات الشديدة بعض السلبيات من أهمها وكما أسلفنا سابقاً أن الإنسان معرض لارتكاب الأخطاء وبالتالي فإن إنزال عقوبات مغلظة قد يدفع نحو المزيد من التطرف وفقد الحس بالعدالة، وتضييع فرصة إرجاع مرتكبي الجرائم مواطنين صالحين، بل قد يدفعهم للانتقام ممن جاوز الحد في معاقبتهم.
عقوبة الإعدام.. مشكلة أم حل؟
تمتاز عقوبة الإعدام عن غيرها من العقوبات بأنها أشد العقوبات، ونظراً لقدسية روح الإنسان لدى أغلب الشرائع والأمم، فقد اقتصر تنفيذ حكم الإعدام على نطاق ضيق من الجرائم الفظيعة كالقتل العمد والخيانة العظمى للأمة.
لكن لعقوبة الإعدام سلبيات عدة أهمها، أنه لا يمكن التراجع عنها بمجرد تنفيذها، فمثلاً لو تبين براءة متهم ما بالقتل بعد إعدامه لا يمكن إعادته للحياة، ولهذا فإن عدم اكتمال الأدلة لدى القاضي يُسقط الحد عن المذنب إلى التعزير أو البراءة وهذا منصوص عليه بالدين عندما وصانا النبي عليه الصلاة والسلام بدرء الحدود بالشبهات.
وكذلك الأمر حينما يتبع القضاء نظاماً ديكتاتورياً قد يُصدر أحكام إعدام جزافاً على أشخاص أبرياء لمجرد معارضتهم النظام الديكتاتوري. في حين لو حُكم عليهم بالسجن، فقد يتمكن هؤلاء من الخروج من السجن بمجرد زوال هذا النظام عن السلطة؛ لذلك فإن منظمة العفو الدولية وكثيراً من دول العالم المتحضر تعارض وألغت عقوبة الإعدام نهائياً من قانون العقوبات لديها.
إن إلغاء عقوبة الإعدام نهائياً له عدة فوائد، أهمها ضمان عدم ارتكاب أحكام جائرة بحق المعارضين السياسيين في الدول السلطوية، كما يضمن عدم تنفيذ حكم الإعدام مطلقاً بحق الأبرياء الذين يتم اتهامهم بجرائم لم يرتكبوها ولكن تمت إدانتهم فيها لفساد النظام القضائي.
لكن إلغاء عقوبة الإعدام سيرفع من أعداد المسجونين في بعض الدول لأرقام قياسية وما يتبعه من نفقات عالية على الدول لحراسة والعناية بتلك السجون، كما سيرفع من احتمالية التقاء عتاة المجرمين مع المجرمين الجدد الذين ليس لديهم ماض إجرامي، مما يزيد من خطورة تعلم المجرمين الجدد الأساليب الإجرامية البشعة من كبار المجرمين وتنفيذها عند الخروج من السجن.
بالتالي نجد أن الدول قد تضطر لتنفيذ حكم الإعدام لتلافي المشاكل السابقة، لذلك اشترطت الأمم المتحدة على الدول التي ترى أن حكم الإعدام ضروري بعض الضمانات التي تكفل حماية حقوق الأشخاص الذين يواجهون حكماً بالإعدام ومنها:
- في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام، لا يجوز أن تفرض عقوبة الإعدام إلا في أخطر الجرائم على أن يكون مفهوماً أن نطاقها ينبغي ألا يتعدى الجرائم المتعمدة التي تسفر نتائج مميتة أو غير ذلك من النتائج البالغة الخطورة.
- لا يجوز أن تفرض عقوبة الإعدام إلا في حالة جريمة ينص القانون، وقت ارتكابها، على عقوبة الموت فيها، على أن يكون مفهوماً أنه إذا أصبح حكم القانون يقضىي بعد ارتكاب الجريمة بفرض عقوبة أخف، استفاد المجرم من ذلك.
- لا يحكم بالموت على الأشخاص الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة وقت ارتكاب الجريمة ولا ينفذ حكم الإعدام بالحوامل أو بالأمهات الحديثات الولادة ولا بالأشخاص الذين أصبحوا فاقدين لقواهم العقلية.
- لا يجوز فرض عقوبة الإعدام إلا حينما يكون ذنب الشخص المتهم قائماً على دليل واضح ومقنع لا يدع مجالاً لأي تفسير بديل للوقائع.
- لا يجوز تنفيذ عقوبة الإعدام إلا بموجب حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة بعد إجراءات قانونية توفر كل الضمانات الممكنة لتأمين محاكمة عادلة، مماثلة على الأقل للضمانات الواردة في المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بما في ذلك حق أي شخص مشتبه في ارتكابه جريمة يمكن أن تكون عقوبتها الإعدام أو متهم بارتكابها في الحصول على مساعدة قانونية كافية في كل مراحل المحاكمة.
- لكل من يحكم عليه بالإعدام الحق في الاستئناف لدى محكمة أعلى، وينبغي اتخاذ الخطوات الكفيلة بجعل هذا الاستئناف إجبارياً.
- لكل من يحكم عليه بالإعدام الحق في التماس العفو، أو تخفيف الحكم، ويجوز منح العفو أو تخفيف الحكم في جميع حالات عقوبة الإعدام.
- لا تنفذ عقوبة الإعدام إلى أن يتم الفصل في إجراءات الاستئناف أو أية إجراءات تتصل بالعفو أو تخفيف الحكم.
- حين تحدث عقوبة الإعدام، تنفذ بحيث لا تسفر إلا عن الحد الأدنى الممكن من المعاناة.
خاتمة
العقوبات ضرورة لا يمكن أن يقوم نظام قضائي عادل ورضا اجتماعي بدونها لكن تنفيذ العقوبات- وخصوصاً العقوبات الشديدة- يجب أن يعاد النظر في صياغتها وآلية تنفيذها بما يحفظ للمجتمع أمنه واستقراره وبما يحقق العدالة ليس للمجني عليه فقط بل للمذنب أيضاً بما يفسح المجال له ليعود مواطناً صالحاً. وإن استحق المجرم عقوبة الإعدام فلتكن ضمن سياق يحفظ للإنسان كرامته ضمن الأطر الدينية والقانونية والأخلاقية وأن لا يتم استخدامها بشكل جائر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.