في لندن، عاصمة المملكة المتحدة، هناك حديقة غنّاء كبيرة وعامرة وتعتبر أحد أهم معالم المدينة السياحية والترفيهية. وتحوي الحديقة الملكية التي تُسمى "هايد بارك"، عدّة أماكن وهناك ركن خاص يُسمى "ركن المتحدثين" أو Speakers Corner، وهو مكان يجتمع فيه بعض الأشخاص كل يوم أحد لإلقاء كلمة أو إطلاق حوار حول موضوع معيّن بكل حرية.
وبما أننا نعيش في عصر العولمة، حيث بتنا نحاكي الغرب في المطاعم والمقاهي والنوادي الرياضية والمنازل بما فيها من ديكور وكماليات. وأيضاً واكبناهم بالمأكل والملبس وروتين الحياة بشكل عام، فما الضير إلى جانب كل ذلك- وبلا شك إن كانت لا تنافي القيم والمبادئ، ما المشكلة إن قلّدنا الغرب بأمور أخرى أكثر نفعاً وجدوى، وإنصافاً هم تفوقوا بها علينا بعدة سنوات ضوئية، كالمكتبات العامة والمسارح ومراكز البحث والملتقيات الثقافية، منها ذاك الملتقى الإنجليزي الذي ذكرناه بدايةً.
بالتأكيد اهتمامنا بأمور كهذه كان ولا يزال زهيداً، فالمسؤوليات في بلداننا الشرق أوسطية بشكل عام والعربية بشكل خاص، تحديداً المتأزّمة منها، المسؤوليات فيها كثيرة وتُثقل كاهل المواطن المسكين، ولا سيما في الجانب المادي ومن ثم الأمني، فالإنسان قد لا يسعه التفكير في هذه الأمور وهو غارق في غمرة المشاكل اليومية وتأمين لقمة العيش لعياله.
ومع ذلك لا مبرر لتقصيرنا في هذا الجانب المهم وهو حجر الأساس في عملية التطوير والتنمية في كل البلدان المتقدمة، فمثلما وجدنا الوقت، فواكبنا بلدان أوروبا بأمور كثيرة فتعلّمنا طرق الأناقة والأزياء والطبخ الغربي وطريقة استخدام التكنولوجيا الذكية ووظفنّاها فقط لأمورنا الشخصية والذاتية، أظن سنجد الوقت أيضا لتعلّم أمور أخرى علمية أو فكرية!
وبتعبير أدق "يمكنك لو أردت، لكنك لا تريد!"، وهنا مشكلة المشاكل، ولعلنا وضعنا الإصبع على مكان الوجع تماماً، فلمَ يا ترى أكثر شبابنا؛ لا يريد، لا يحب، لا يرغب، لا يهتم أو يكترث، ولا يشجع هذه النشاطات والمبادرات؟
أسباب كثيرة منها نفسية واجتماعية وسياسية.. فمن المهم أولاً أن نشخّص المرض أو نعترف بوجوده بدايةً ومن ثمّ نعرف الدواء الناجع ونَصِف العلاج المناسب على أساس الأعراض الملحوظة.
ومن اللازم أن ننوّه بوجود ملتقيات وندوات حوارية كهذه على أرض الواقع أو العالم الافتراضي، لكنها إما قليلة، أو دون المستوى المطلوب فنجد فيها الانتقاص والتسقيط والانتقاد لمجرد الانتقاد والخروج من الإطار الأخلاقي في الحوار، أو يقتصر حضورها على مجموعة معينة ولا تستقبل المختلفين عنهم!
وهنا نصل إلى إحدى الأزمات؛ لعل من أسباب غياب أو فشل مشاريع كهذه: غياب الحرية وارتفاع سقف المقدّس!
وأرجو ألا تُفهم تلك الكلمة خطأً، فهناك بلا شك مقدسات وخطوط حمراء لدى كل جماعة، لكن مان راه اليوم زيادة هذه المساحة وكبر حجمها مع الأيام، فدخل إلى منطقتها أفراد عاديون وأصبحوا معصومين بنظر محبيهم ومتبعيهم وبالتالي فهم غير قابلين للانتقاد بتاتاً، وأي وجهة نظر مخالفة أو مجرد رأي عليهم سوف يُخرَج المُنتقِد من دائرة الحوار فيُسب ويُشتم ويُقذف بأبشع التُّهم.
على سبيل المثال في إحدى المجموعات الفكرية المتشكلة في واحدة من وسائل التواصل الاجتماعي والتي تدعي الحرية في طرح الآراء، تناول أحد المشتركين أحد المفاهيم وانتقدَ قضية ما ومن ثم شخصية تبنّت تلك القضية أو بالأحرى إحدى نظرياته أو قناعاته، هذا ومن دون أي تجاوز أو إساءة، والنتيجة أخرجوه مباشرةً من المجموعة، مع تعليق بأن هذا الشخص، يثير بعض الفتن!
كان من الأولى الإجابة عليه والرد على إشكالاته وتوضيح الصورة له ولبقية المشتركين الكُثر أو حتى فتح باب للحوار والمناقشة العلمية غير المنحازة بدل إلغاء رأيه وإقصائه، أليس هذا منهج وأخلاق كل الرسل والحكماء والمصلحين!
لعل ما يُنجح التجربة الإنجليزية في (هايد بارك)، أو أغلب الملتقيات المقامة في الخارج، هو جو الحرية الكامل، فتراهم يطرحون كل القضايا من دون خوف وقلق.
أما في بلداننا فالاختلاف في الآراء قد تكون نتيجته القتل، وكم سمعنا هكذا حالات. وهنا لا ندعو إلى الحرية اللامتناهية والتي لها نتائج لا تُحمد عقباها فهناك ثقافة وضوابط وحدود لكل شيء.
في زمن الانعزال والانطوائية وإلهاء الشباب في أمور تافهة وسطحية، نحن بحاجة إلى ركن التحدث في (هايد بارك) وبنكهة عربية، خيمة أو جلسة ثقافية تكون ضمن متنزّه مثلاً، تُقام في يوم محدد، تقدَّم فيها القهوة أو الشاي لتحسين الحالة المزاجية وتخفيف التعصّب، أوتادها الحوار؛ حوار حتى قيام الساعة. وحضورها من كافة الفئات والأديان والأحزاب والطوائف وفي كل ملتقى هناك مُنظّم أو قائد حكيم يدير دفة الحوار..
لا بأس ليختلفوا في الرأي، ما دام الاختلاف لا يتحول إلى خلاف أو حتى سلاح!. وللاختلاف ميزة وهو تلاقح الفكر وإثراء العقل وإرفاده بآراء أخرى من المختلف عنّا، "خذ الحكمة أنّى كانت، فإنَّ الحكمة ضالة كل مؤمن".
الهدف الحقيقي من إنشاء هذه الحديقة أو الخيمة أو المجموعة الإلكترونية، هو حل المشاكل والخروج بنتائج، وليس فقط الكلام، قد تكون مواضيع عادية وبسيطة وعرضاً لتجارب ومشاريع معينة لكنها مؤثرة في حياتنا اليومية وتُطور المجتمع..
نعيش في مجتمع تكثر فيه النزاعات، إحدى الطرق لتلافي سمومها هو الجلوس سويةً والحديث عن السبيل لتحجيمها، ومن حق كل إنسان أن يدعو إلى قناعاته أو انتقاد أخرى، ما دام لم يستخدم القوة في ذلك، وعلى أمل أن نسمع يوماً: وأخيراً اتفق العرب على أن يتفقوا!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.