عجبت حين وقعت عيني على رواية "سافرولا"، ضمن مكتبة نوبل الصادرة عن دار المدى، وعجبت أكثر أن رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل قد حصل على جائزة نوبل للأدب، وهو الذي حجبت عنه جائزة نوبل للسلام. أما سبب منحه الجائزة كما ذُكر فهو كتاباته التاريخية وخطبه، للرجل كتب عن تاريخ الحرب العالمية الثانية، وله كتاب عن الحملة الإنجليزية على السودان ضد ثورة المهدي.
كتب الرجل رواية "سافرولا" قبل مطلع القرن العشرين، أي قبل أن يدخل عالم السياسة، معظم معلومات الناس عن تشرشل تدور حول انتصاره في الحرب العالمية الثانية على هتلر، وألمعيته السياسية التي جعلته يستعين بأمريكا، لكي تحسم الحرب ضد ألمانيا، بعد أن أصبحت لندن في متناول القوات الألمانية التي احتلت فرنسا. لم يكن يخفى على الداهية تشرشل أن دخول أمريكا الحرب يعني، بطريقة أو بأخرى، تعميد القوة الصاعدة لتجلس على عرش العالم. وأن ذلك التدخل الأمريكي في الحرب العالمية الثانية يقتضي أن تصبح الإمبراطورية البريطانية في ذمة التاريخ، ولكنها الحسابات الواقعية وحدها، التي جعلت من تشرشل سياسياً معروفاً بالحنكة والدهاء، بل والعظمة أحياناً، لكنه ليس كذلك من المنظور الإنساني والأخلاقي.
تشرشل في الهند: 3 ملايين قتيل
شخصياً، لا أستطيع الحكم على أعماله التي أهّلته لنيل جائزة نوبل للآداب، وإن خطر ببالي أن نجوميته في الحرب العالمية الثانية وما بعدها قد دفعت القائمين على جائزة نوبل إلى منحه الجائزة تعويضاً عن خسارته جائزة نوبل للسلام. ولو حصل الرجل على جائزة نوبل للسلام لربما تحوّلت المسألة إلى نكتة سخيفة وخطيئة لا تُغتفر في سجلات نوبل للسلام. بالطبع لم تخل صحيفة نوبل للسلام من الخطايا، مثل فوز رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق مناحيم بيغن بها. ولكنها لم تتورط في منحها لتشرشل، الذي لم يكن رجل سلام يوماً. فرغم نجومية تشرشل التي صنعها بانتصاره في الحرب العالمية، وما يُنسب إليه من مقالات وتعليقات طريفة، لكنها كثيفة التعبير، تفضح الساسة وانتهازيتهم وفقرهم الأخلاقي، فإنه -مرة أخرى- لم يكن رجل سلام أبداً. قد يتمتم البعض ويتساءل: ولكنه بإنقاذه البشرية من النازية كان يصنع سلاماً لا يُصنع إلا بالحرب، وهو تساؤل في محله.
ولكن إجابته سهلة، فقد كان رجل سلام لبلده وناسه، ولو أتى السلام على حساب شعوب لم ترتكب جرماً ولم تعتدِ على أحد، بل كانت مع السلام.
ولعل أبرز الأمثلة على أن الرجل لم يكن مع السلام أو يبحث عن رخاء الإنسانية ردة فعله على مجاعة البنغال (الواقعة تحت السيطرة البريطانية) عام 1943. تعرّضت البنغال آنذاك لكوارث طبيعية لم تُبق للناس ما يأكلونه، وصل الأمر بالناس إلى استجداء ماء الأرز. كانت الهند تحت إدارة بريطانيا، وكان تشرشل رئيساً للوزراء، يملك أن يوجه لها المعونات الغذائية اللازمة، ولكنه رفض، معللاً أن ما عنده من طعام يجب أن يبقى لشعبه وجيوشه. ولأن السفن التي تحمل الطعام تعمل لدعم المجهود الحربي، ويجب ألا تنشغل بطعام الهنود، كما قال هو نفسه، استمرت المجاعة أشهراً، وهرب الناس من الموت في القرى ليموتوا في المدن وهم يستجدون الطعام. وجاء رد تشرشل على تلك المعاناة الإنسانية الأليمة، علانية في مجلس العموم البريطاني، بأن أي طعام لن يكفي الهنود الذين -كما قال- يتكاثرون كالأرانب. فكانت حصيلة المجاعة آنذاك موت ثلاثة ملايين إنسان، أي ستة أضعاف قتلى البريطانيين في الحرب العالمية.
تشرشل في فلسطين: هندسة إسرائيل
أما في العالم العربي، فقد عمل مثل كل الساسة البريطانيين لتمكين الحركة الصهيونية من أرض فلسطين. وخاصة في الفترة التي كان فيها وزيراً للمستعمرات، والمُطالع لما كتبه العرب عن زيارته للقدس عام 1921 وحواراته مع عبدالله بن الحسين يرى خطورة دوره. وأجريت المباحثات بين عبدالله بن الحسين وتشرشل في وجود هربرت صموئيل، المندوب السامي البريطاني اليهودي ولورانس العرب.
المباحثات تضمّنت تراجعات عن الوعود التاريخية من بريطانيا للشريف حسين بخلافة عربية بعد رحيل العثمانيين، ولكن الذكاء البريطاني جعل الأمر وكأنه منحة من البريطانيين للعرب، بريطانيا تريد أن تعطي فيصل بن الحسين عرش العراق -رغم أن الطامحين إليه كثيرون- وذلك تعويضاً له عن عرش دمشق التي دخلها الفرنسيون وطردوا منها فيصل بن الحسين.
نلاحظ هنا أن البريطانيين لم يتحدثوا عن اعتذار عن خيانتهم للعرب بتوقيع اتفاقية "سايكس-بيكو" من ورائهم. رغم أنها الاتفاقية التي ألغت وعود بريطانيا للشريف حسين، وأكدت على إعطاء أرض فلسطين لليهود، بينما الشريف عبدالله الذي لا حول له ولا قوة لم يتذكر وعود بريطانيا لأبيه، بل شغله ما قيل يومها بأن وعد بلفور يتضمن أراضي شرق الأردن ضمن ما يأخذه الصهاينة.
وهذا في الحقيقة ليس واضحاً في وعد بلفور، الذي نصّ على وطن قومي لليهود في فلسطين دون إضرار بحقوق السكان.
ولكن اعتمد البريطانيون على أنه لم تكن هناك حدود جغرافية واضحة تقسم بلاد الشام، التي كانت طوال التاريخ وحدة جغرافية. فجاء البريطانيون ليقسموها، وبدلاً من أن يطالب عبدالله بفلسطين، اكتفى بالقول إن الفلسطينيين لن يوافقوا على وعد بلفور. وهنا أخذ الحديث مساراً آخر انتهى بالمقدمات التي أفضت إلى ما وصلنا له اليوم.
باختصار، كان تشرشل من المهندسين التنفيذيين لوعد بلفور.
تشرشل الدرامي
أما رواية "سافرولا" فهي رواية جديرة بالقراءة، تنتمي لفرع الكوميديا السوداء، الذي يهدهد اليوم القارئ العربي بعد ما آلت إليه ثورات الربيع العربي. ولعل تشرشل هنا يكتب السيناريو المتخيل لما سيحدث عندما تنقلب الدولة على الديمقراطية، فهذا رئيس من الجيش، آلى على نفسه أن يبقى رئيساً حتى الموت، ودبر للاستمرار على الكرسي. فوقعت اضطرابات شعبية وهبّات جماهيرية قادها حزب المعارضة، فتحولت التظاهرات إلى مظلة للفوضى، وظهرت عناصر دخيلة مارست العنف. على الناحية الأخرى، زعيم المعارضة كان خطيباً ساحراً يستطيع تحريك الجموع. والرئيس استجاب لنصيحة أحد مستشاريه الانتهازيين ليحاول إغواء زعيم المعارضة. النصيحة قائمة على توظيف زوجة الرئيس في إغراء زعيم المعارضة لتلعب دور دليلة مع شمشون.. ما الذي حدث بين زعيم المعارضة وزوجة الرئيس الجميلة المحبوبة؟
لجأت الدولة أيضاً إلى افتعال حرب خارجية، كان مفهوماً حتى للدولة المعادية أنها حرب لإشغال الناس عن الوضع الداخلي، وككل الدول التي تخطط للتحول من الجمهورية إلى الملكية، انتهى حال أفرع جيشها ضعيفة كسولة، بينما قوات الحرس (تشبه قوات الحرس الجمهوري اليوم) ما زالت عفية، محافظة على الولاء للرئيس.
في الرواية نجحت الثورة، ولكن بالعنف الذي قادها إليه متطرفوها وتصرفات وزير دفاعها المتهور. قُتل الرئيس بأسلوب لا يختلف كثيراً عن مقتل القذافي، وكاد رئيس الثورة يخفق في لجم العنف، بل حاول الهرب من البلاد مكتفياً بما حازه على المستوى الشخصي من حب الفاتنة "لوسيل"، التي قتل أبوها وأخوها في معارك الجنرال القوي الذي أنقذ الأمة ثم بات يحكمها، والتي وقعت في غرام زعيم ثورة الأمة الذي سيؤول إليه حكمها.
أسلوب الرواية ميلو درامي بامتياز، الانتهازيون ينتقلون من معسكر إلى معسكر بسهولة، ويبقون في الصورة، وهم داء السياسة ومفسدوها. والعمال البسطاء الذين يحركون مجرى التاريخ بأنفسهم تنساهم صحفاته كالعادة.
ويختتم تشرشل الرواية بعبارة المؤرخ الشهير إدوارد جيبون، أن التاريخ ليس سوى سِجل تُدون فيه جرائم الجنس البشري وحماقاته وسوء طالعه.
يقول البعض إن جمهورية لوران التي يتحدث عنها تشرتشل في روايته هي في الحقيقة إحدى جمهوريات الموز، أي إحدى جمهوريات أمريكا اللاتينية، ولكن الرواية لا تترك لأحد المجال أن يتخيلها سوى نقيض المدينة الفاضلة، المدينة الديكتاتورية إن صح القول.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.