مما لا شك فيه أن معظم الأحزاب والزعامات اللبنانية ترتبط بعلاقات دونية مع دول عربية وأجنبية، ومما لا شك فيه أنه يجب محاكمتهم أمام القضاء بتهمة التخابر مع الأجنبي، لكن الذي تغير هو أن لبنان بات على مقاعد الدول العميقة الفاشلة والمفلسة، وبالتالي تحول إلى عبء ثقيل، لذلك تخلت عنه الكثير من الدول، حيث بات مصدراً للمتاعب لكل من يقارب مشاكله، خصوصاً أن معظم الدول ذات الصلة باتت غارقة في أجندات أخرى أكثر أهمية لها من الانشغال بمصير دولة متفسخة على طريق الانحلال وأي مظهر من مظاهر الاهتمام الدولي والعربي بلبنان لن يتعدى أكثر من تسجيل موقف دون المبادرة إلى أي فعل لمساعدة لبنان على الخروج من الدوامة التي وقع فيها على يد أمراء طوائفه.
أما الأسباب الداخلية لتعثر تشكيل الحكومة فتكمن في رفض أطراف تحالف مار مخايل التخلي عن حيازتهم للأغلبية النيابية بمنح الحريري شيكاً على بياض دون مقابل، والرئيس الحريري يعلم تماماً أن تحالف مار مخايل لا يريد التخلي عنه على رأس الحكومة لأنه الأقدر عبر علاقاته الدولية على تخفيف الحصار العربي والدولي، وهم لا يريدون بتاتاً تكرار تجربة حسان دياب جديد. أي لكل طرف من الطرفين اعتباراته الخاصة وأوراقه القوية لكن لعبة عض الأصابع هذه لن تعمر كثيراً تحت ضربات انهيار العملة الوطنية المتسارع. فماذا يريد تحالف حزب الله والتيار العوني من الرئيس الحريري بالضبط؟
يبدو أن هذا التحالف يعمل على خلق كل الموجبات والأسباب التي تؤدي إلى تمديد ولاية المجلس النيابي الحالي باعتبار أن هذا المجلس هو الأنسب لهم في اختيار رئيس الجمهورية القادم لأن الجميع بات على قناعة بأن عهد الرئيس عون انتهى بفشل ذريع، وهذا هو سبب العناد حيث يخاف التيار العوني من خوض غمار معركة نيابية نتائجها لغير صالحه، أما من جهة حزب الله فهو أكثر اطمئناناً بالنسبة إلى حاضنته الشعبية، لكن تخوفه ينبع من احتمال حدوث فراغ في الرئاسة الأولى بحيث تتولى حكومة الحريري مجتمعة مهام رئيس الجمهورية والرئيس الحريري ليس تمام سلام بالنسبة لحزب الله حتى يكون مطمئناً لاحتمال حدوث الفراغ في موقع الرئاسة الأولى.
هنا تكمن معضلة تشكيل الحكومة فإذا لم تصغ تحت الطاولة توافقات وضمانات المرحلة القادمة ستبقى حكومة حسان دياب حتى ما بعد الفراغ المحتمل في موقع الرئاسة؛ لأن الفذلكة الدستورية واضحة في هذا المجال، حيث الشرعية تستمد من مبدأ أن "الحكم استمرارية"، أما بؤس الشعب اللبناني وانهيار القدرة الشرائية وفقدان السلع فلا يعتبره هذا الفريق ضاغطاً إلى حد تقديم تنازلات خصوصاً أن تجربة الجمهورية الإسلامية غنية وناجحة في مجال تحمل الحصار الخارجي وانهيار العملة، ويمكن لهذا الفريق أن يستنسخ هذه التجربة بسهولة إذا ما سدت السبل في طريق التسوية مع الحريري.
أما الأطراف الأساسية الأخرى المشاركة في السلطة خصوصاً الرئيس بري والوزير جنبلاط فينحصر دورهم في تقريب وجهات النظر، أما باقي القوى السياسية على ما يبدو فإنها تعيش أحلام اليقظة وتحاول دفع غبطة البطريرك الراعي إلى الواجهة ظناً منها أنه من الممكن استنساخ تجربة غبطة البطريرك الراحل صفير في مواجهة الوجود السوري، لكن ظروف اليوم لا تشبه ظروف الأمس ومن سابع المستحيلات تكرار تلك التجربة بأي شكل.
إن استمرار الانهيار الاقتصادي والمالي على هذه الوتيرة سيجعل من لبنان لقمة سائغة على طاولة رسم الخرائط الجديدة، حيث تبدو بعض المؤشرات على مشروع تطبيع إسرائيلي سوري يظهر من خلال الحماس المستجد للإمارات العربية الداعي لعودة سوريا إلى مقعدها في جامعة ذوي الاحتياجات الخاصة "جامعة الدول العربية"، وتبادل الأسرى بين سوريا وإسرائيل عبر الوسيط الروسي، حتى إن التفتيش عن جثة الجاسوس الشهير كوهين تشغل حيزاً من الوقت أكثر ما تشغله معاناة الشعب السوري عند القادة السوريين والروس، إضافة إلى غياب كلمة فلسطين عن تصريحات وخطابات المسؤولين السوريين.
وبالتالي يمكن الاستنتاج من ذلك كله هو أن احتمال توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بات أمراً وارداً أكثر من أي وقت مضى، ولا يسعنا إلا أن نشكر بابا روما على تكبد مشقة الرحلة إلى العراق بقصد طمأنة المسيحيين على مستقبلهم في العراق، لكن للأسف لم يجد الكثيرين منهم هناك لأنهم رحلوا من البطش والقهر والمجازر التي ارتكبت بحقهم دون أي ذنب منهم، لذلك أدعو غبطة البطريرك الراعي إلى لملمة صف الرؤوس الحامية من قادة الموارنة بالابتعاد عن التحالفات الثنائية والمراهنة عليها لأن الخطر ليس في عدم تشكيل الحكومة بل الخطر هو بانهيار لبنان وتبعاته السلبية على اللبنانيين عموماً والموارنة خصوصاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.