المعتقلات التربوية.. حين تتحول البيوت إلى زنازين وتصير التربية سجناً

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/17 الساعة 08:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/18 الساعة 08:18 بتوقيت غرينتش
يحتاج الطفل إلى أبوين سليمين عقلياً ليعيش طفولةً طبيعية، ويبلغ بشكلٍ صحي لاحقاً/ istock

في كثير من الأحيان تتحول العملية التربوية إلى سجن أو مقرات احتجاز مقنَّنة، ينفر فيها الأبناء من الآباء والمربين بسبب صلفهم وقسوتهم وشدة مواجهتهم للسلوكيات التي يحسبونها غير سوية؛ فيتسلح المربون بكافة الأسلحة الصلبة التي تشوّه صورة المربي لدى المتربي، وتصنع من "المربي الرمز" في نهاية الأمر جلاداً أو سجّاناً على قضبان الزنزانة التربوية؛ يصدر الأوامر، ويطلق الرصاص هنا وهناك ليسيطر على المتمردين، وينتظر من جموع المتربين الصاغرين الانصياع والطاعة العمياء!

الممارسة الخطأ للعملية التربوية، والنظر إليها على أنها مجرد توجيه من الأعلى إلى الأدنى، أو علاقة بين طرفين أحدهما يرسل بصرامة والآخر يستقبل بسلبية، هي اختزال مخلّ لعملية معقدة ومتشعبة غاية التشعب، وتبسيط لأمر خطير لا يمكن تبسيطه بهذه الطريقة المسطَّحة، وانتقال سافر بممارسة يفترض أن تكون زاخرة بالمودة والرفق من خانة التأثير إلى خانة الإذلال والترويع المهين؛ ما قد يودي بالعملية التربوية برمّتها، ويؤثر تأثيراً سلبياً على جميع الأطراف: المربي والمتربي والمجتمع من حولهما.

لقد دفعت هذه النظرة السطحية كثيراً من المؤسسات التربوية والتعليمية في كثير من دولنا العربية إلى تسوير مدارسها بالأسلاك الشائكة والقواطع الحديدية تجنباً لتسرب الطلاب منها، لتتحول فعلياً إلى سجون وإصلاحيات عالية الأسوار، يمقتها المتربي، ويعد فيها الساعات ليهرب منها سالماً بلا خدش أو جرح تربوي جديد كل يوم.

إن الممارسة التلقائية العاجزة -التي يحلو للبعض تسميتها "الممارسة الفطرية"- غير المستندة إلى أصول وأسس علمية وتربوية سليمة، والتصور الخطأ عن عملية التربية، والتلقي غير المدروس وغير المهني للمبادئ والوسائل التربوية والنفسية؛ كل ذلك أداة بائسة في تأسيس فشل تربوي محقق، وتحويل أدوات التوجيه التربوية الفاعلة إلى سياط تسلخ جلود المتربين، ولا تعمق فيهم قيماً ولا مبادئ، ولا تزيد جراحهم إلا غوراً.

ورغم الانفجار المعرفي الضخم الذي غزا العالم، والتدفق الهائل لكمِّ المعارف والمعلومات في كافة المجالات، وسرعة وسهولة الوصول إليها وتحصيلها؛ إلا أننا لا نزال نتعامل مع أخطر الحقول الإنسانية -الحقل التربوي والنفسي والتعليمي- بصورة عشوائية وبدائية خالية من التخصص أو الدراسة، ونمارس التسلط والسادية على كائنات الطفولة البريئة؛ فقط لأنها وقعت تحت مسؤوليتنا بلا أي استحقاق أو أفضلية، وننظر إلى الأطفال على أنهم مجرد عقول بدائية سهلة التوجيه ويناسبها أي مستوى تلقيني مبتدئ، فتُسند مهام تربيتهم إلى المبتدئين والدهماء، في حين يؤكد المتخصصون أن المراحل السنية الأولى هي أشق المراحل وأشدها وعورة وأهمية.

لقد تحولت كثير من البيوت وقاعات التربية ومحاضن التعليم إلى سجون قاسية القضبان، يساق إليها المتربون تحت سياط النقد الهادم والتوجيهات المشوهة والسلطة الأبوية الخالية من العاطفة، غير عابئة بالأثر النفسي القاتل لها، ولا موجِّهة نظرة بعيدة المدى لما يمكن أن يؤول إليه حال الفتى أو الفتاة في المستقبل جراء هذه الممارسات الاستبدادية القميئة، ليصير هو (الفتى) سجاناً مستقبلياً جديداً، وتصير هي (الفتاة) جلادة مستقبلية لزنزانة جديدة تكتمل بها دائرة الاضطهاد لا التربية في أسرة أو مؤسسة أو منظومة محكوم على أدائها مسبقاً بالانهيار.

إن رفق المربي بأبنائه، وتفهمه لطبيعة مرحلتهم ومتطلباتها، وتعامله مع ذلك بحكمة وروية؛ ليس داعية لاستهانة المتربين بتوجيهاته كما يظن الكثيرون، بل هو البلسم الشافي لجراحهم الدامية ما دام بالقدر المناسب لكلٍّ بحسبه، وهو الرمانة التي توازن التوجيهات المباشرة التي يكرهها المتربون أحياناً، فبه تتهدم أسوار السجن، ويعود أداة فاعلة حيوية في التأثير والتوجيه.

يحتاج المربي أحياناً إلى الحسم والحزم، لكنه بحاجة أكبر إلى الحكمة لترشده متى يستخدم اللين والرفق ومتى يكون الموضع موضع الشدة والمفاصلة، ومتى يستطيع التفرقة بين الحزم المحمود والقسوة المذمومة.

إن التباسط المحسوب مع المتربي، واستمالة قلبه بالوسائل المختلفة والتفنن في ذلك يسهم في إنشاء أجيال يسكن الحب أفئدتها، وتبدد المودةُ المزروعةُ بداخلها نوازعَ الأثرة والأنانية والتسلط، وتفتح عقول الناشئة لتقبل الأفكار والتغيير الذي يبذل المربي جهده لإحداثه؛ فمهما كان المربي باذلاً ناصحاً نشيطاً متمكناً من أدواته لكنه فظ غليظ الكبد والفؤاد فلن يفتح له قلب متربيه، وسيظل يعاني من قصور وصول المفاهيم المرسلة منه إلى المتربي، وسيظل أبد الدهر يشكو قلة التأثير وشُحّ المردود.

فاشرعوا نوافذ القفص، ولا تقفوا حراساً بالرماح على أبوابه الصدئة، واسمحوا لدفء الرفق والمودة بالنفاذ، بل أزيلوا جدران الزنازين، وأتيحوا لأسراكم تنسُّم هواء العطف وعبق الألفة، وتمثلوا قول المربي الأعظم، صلى الله عليه وسلم: "إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد الغباشي
أديب مصري وباحث في الدراسات الإسلامية
المدير التنفيذي ورئيس تحرير منصة "رواحل" حالياً، ورئيس قسم الإصدارات والبحوث بمؤسسة الشيخ ثاني بن عبد الله للخدمات الإنسانية "راف" سابقاً.
تحميل المزيد