"لا تسألي لماذا؟ لماذا زَحفتُ إليكِ فيما بعد؟ ولماذا تمسكتُ بكِ بأظافري وأعصابي وقلبي؟ كنتُ أطلب النجاةَ وكنتُ أكافحُ من أجلِها، كنتُ أودُّ أن أحيا ثانيةً، أن أولدَ ثانيةً، وكنتُ بلا مُعين، وحدي أقاسي ألَمَ المخاض، ألَمَ من تتمخّض ولا تَلِد".
كانت هذه إحدى رسائل خليل حاوي، الشاعر المتمرد المتوتر السوداوي على الدوام إلى ديزي الأمير، الوحيدة التي هزمت كبرياءَه ومرَّغَتْ غرورَ قلبِه.
خليل كان شاعراً لبنانياً أنيق اللغة جداً، لكنه كان متشائماً للغاية، وعنده أنفة كبيرة، ولم يضعفه في حياته شيء إلا حبه لديزي الأمير، القاصة العراقية الفذَّة، التي عانت الكثير هي الأخرى من حياة المهجر، ولم تعُد للعراق إلا جثةً بعد عمر اثنين وثمانين عاماً كاملة؛ لأن روحها لم تطاوعها أن ترى العراقَ بعد المأساة.
المعاناةُ مَفرَخَةُ الفنون، كان هذا هو تلخيصُ حياةِ خليل، كأنه قد كُتِبَ على جبينه: أنا تفسيرُ ذلك.
خليل عانى كثيراً في حياته على كل المستويات، عمل في مهنٍ عدة منها الإسكافي، وعمل المعمار، وبعد سنين من معاناته تلك بسبب (لقمة العيش) عاد للدراسة الثانوية ثم الجامعية وتخرَّجَ وهو أكبر بسنواتٍ من أقرانه.
إحدى المآسي الأخرى في حياة خليل كان موت شقيقته الصغرى المحببة إليه جداً أوليڤيا، كأنّ المآسي أبَتْ إلَّا أن تُحقِّقَ أحلامها كلَّها فيه.
كان والد خليل يعمل في مدينة "بوارج" بالبقاع في لبنان، وفي سنةٍ من السنين اصطحبَ عائلتَه معه، زوجته وابنه وابنته، لكنَّ الطفلة أوليڤيا تصابُ بحمى شديدة، وحين أحسَّ الوالدان باقتراب موتها نقلا الطفل خليل إلى الشوير، مدينتِهم الأصلية، وحين كان يسأل عنها بعد موتها كانوا يتحجَّجون بالعديد من الأعذار، منها مثلاً أنها انتقلتْ لمدرسة داخلية في بيروت، خليل قال عن هذا بعد سنين في أواخر حياته: "غريب أمر هذه الطفلة! ما زلتُ إلى اليوم أتَرَقَّبُ عودتها وهي لا تأتي، أين أنتِ يا أوليفيا؟!".
خليل إنسان ذهب في رحلة مع العمر ثم عاد وحده! وصف معركتَه مع نفسه بأنه "ارتعبَ حين رأى سحر الزمن"، كان هذا تعليقُه على النساء اللواتي تعلَّقَ بهنَّ في مراهقته وبداية شبابه في بلدته الشوير وما حولها، وكان حين يعود بعد سنين إلى موطنه يَراهُنَّ وقد أصبحنَ أمهاتٍ؛ بل ومنهنَّ جدَّات! مثل فتاة كرم العنب التي كان يلاحقها في صباه في أيام قطف العنب فيتبادلان أحاديثَ مخنوقة لم تكفِه أو تكفِها، رحل عن الشوير ليعمل بالمعمار، ثم عاد ليجدها أُماً، ثم جدَّة، وهو بعدُ في مكانه.
وظلَّ هكذا حتى أوقعَتْ قلبَه تلك الفتاة العراقيةُ بديعةُ الطلَّة، ديزي الأمير.
تعرّف خليل حاوي على ديزي الأمير، وتطوّرت علاقتهما بسرعة، وعندما سافر هو للحصول على الدكتوراه من كامبريدج بعد قصة كفاح دراسية كبيرة، ظلّت بينهما الرسائل لسنوات، يقول خليل في إحداها في ثاني أيام وصوله:
"الساعة الرابعة صباحاً في الشارع، وقْعُ أقدام وضجيج سيارات لا ينقطع، وشعوري أنني أستيقظ اليوم في بلد غريب، إنه شعور بالوحشة وبالحنين يكاد يبلغ حدّ الألم، إنه شعور بالانفصال لم يكن في نفسي بالأمس على متن الطائرة".
لخَّص خليل الغربة في شكل الضوضاء!
بعد مدة لحقتْ به ديزي على أمل أن يتزوَّجا، وظلتْ معه شهوراً، لكن ذلك لم يحدث لعدة أسباب، تقول ديزي عن ذلك: "إن خليل ليس عصرياً، فهو لا يعتني بهندامه، ولا يشتري ألبسة جديدة، وهو لا يريد أن يغير أثاث شقته عندما يتزوج".
خليل أخبرها أن (هذه ظروفه) وهو ليس غنياً كفايةً ليفعل ذلك؛ فعادت إلى لبنان وتزوَّجتْ.
لم تطل زيجة ديزي الأمير كثيراً، طُلقت من زوجها، فتوسَّل لها خليل -وهو صاحب الكبرياء- أن تعود إليه، لكنها رفضَتْ رفضاً قاطعاً.
وقع خليل في الكآبة وكراهية كل شيء، حتى الشِّعر لم يعدْ يصادقه كالسابق، وآخر دواوينه (جحيم الكوميديا) لاقى سخرية كثير من النقاد والمثقفين، وقالوا عنه: "لقد انطفأتْ جذوة إبداعِ هذا الشاعر للأبد".
يقول خليل حاوي في ذلك بمرارة: "الثرثرات النسائية في المجتمع البيروتي أفسدت الصلة بيني وبين ديزي الأمير التي أهديتها كتاب جبران، اليد التي أمسكت بيدي في ليالي الشك والخلق، وهي التي رافقتني إلى جامعة كامبريدج".
وقال خليل في رسالة أخرى لديزي مُلَخِّصاً تأثيرها عليه، وهو صاحب الكبرياء الذي لا يصَرِّحُ بسهولة: "إن الحبّ يا ديزي -كما علّمني غيابك عنّي- جوع لمن نُحبّ، وشبع من الآخرين".
عشيَّة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، في يونيو/حزيران 1982، انتحر خليل حاوي. أفاق جيرانه صباحاً من أخبار الغزو ليجدوه ملقى في شرفته وبيدِه بندقيةٌ، ليغلقَ قصةً من قصص المعاناة الإنسانية التي تعتبرُ قدَرَ المفرطين في الوعي (حرفياً وليس دعابة).
في الأشهر الأخيرة التي سبقت انتحاره كان خليل حاوي يلتقي بديزي الأمير مصادفة في شوارع بيروت الغربية، ويرجوها أن تعود إليه لتتزوجه، لكنها كانت محاولاتٍ للمستحيل، فقرَّر التخطيطَ للموت. قبل حادثة انتحاره حاول الانتحار ست مرات، وفشل في وضع حد لحياته، في كل مرة وعقب المحاولة كان القدر يتدخل لإنقاذه، تعرف والدته المسنة، أو بعض أصدقائه عن طريق المصادفة بالمحاولة فيأخذونه بالقوة إلى مستشفى الجامعة الأمريكية، حيث يعالج ويشفى.
لكن ليلة الاجتياح الإسرائيلي لم يكن أحدٌ ينتبه أن نهاية القصةِ، تنسجُ خيوطها في صمتٍ، وبعيداً عن ضوضاء تغيّر التاريخ.
ظهر جزء من طبيعة ديزي الأمير في نشرها لرسائل خليل حاوي سنة 1987، لكنها اقتطعت منها جملاً، ومقاطع كاملة، ما دفع أخاه لتهديدها بنشر رسائلها له؛ فاعتذرت.
ويقال إن سبب اقتطاعها وتضحيتها بالأمانة العلمية كان بسبب احتواء الرسائل على بعض الغزل الإباحي، ويُقال إنها حذفت المقاطع التي تحتوي على اسمها، وقيل أسباب أخرى، لكن المهم أنها نشرت ما لا يعيبها في شيء "فقط" من وجهة نظرها.
تزوجت ديزي مجدداً من حبيبٍ صادق "عادي جداً" بعد ذلك، وانفصلت عنه بعد سنتين فقط، ونشرت الرسائل سنة 1987. وماتَ خليل حاوي، كتنفيسٍ للموتِ عن نفسِه، موت مَن سابَقَ حزنَه وهو يدري أن المضمارَ منحازٌ لخَصمه، ولعلَّه حين قال: وجهي المنسوجُ من شتَّى الوجوه؛ وجه من راح يتيه.. فإنه أراد أن يرثي نفسه!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.