مع كل حالة فقدٍ أعاينها مع الفاقدين، أستذكر حادثة الفقد التي عايشتها في طفولتي حين توفي أبي "رحمه الله"، تتبادر إلى ذهني عبارة للشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي "كلّ ما في الأرض من فلسفةٍ، لا يُعزّي فاقِدًا عمّنْ فقدْ"، أشعر وكأنها قيلت لتعبر عن مخزون الألم الذي تعانيه النفس لقاء فقدها أحبتها، تأتي العبارة وكأنها تقول لنا إن كل ما تقولونه أو تكتبونه لا يساوي ذرة ألم مما نعانيه جراء الفقد، ولا يحمل علينا إلا أن نكتوي بألمنا.
لا أعلم إن كان شيء من العدم أن نكتب أو شيء من اللامبالاة أن نصمت أكثر، ولكن ما يدعوني للكتابة هنا هو مأساة عربية عايشناها جميعنا عبر مقاطع فيديو لمرضى في مصر وفي الأردن، وفي فلسطين أيضاً، رغم إنكار الحكومة الفلسطينية للحادثة وإثبات المواطنين لها، حادثة قطع الأوكسجين عن مرضى العناية المكثفة مصابي وباء كوفيد-19 "كورونا" اللعين.
حتى الآن لا يمكنني تناسي صورة الممرضة المصرية وهي تجلس على الأرض تضع أكفّها على رأسها لهول ما رأت، ربما ليست حادثة موت المرضى بين يديها ما أفجعها، وعدم قدرتها على تقديم شيء لهم، بقدر فجيعة أهالي المرضى، فجيعة اللحظة القاسمة بين موت المريض وموت محبيه بالقهر، فاجعة اللحظة الأخيرة بين "أمي في الإنعاش" وبين "لقد مات جميع مَن في الإنعاش".. "إنعاش" ذلك الاسم السُميّ على النفس الذي يقول لك بالحرف "إن عاش"! ويبدو أنه في أوطاننا العربية تسقط كل احتمالات العيش الطبيعي.
تبعها بأشهر قليلة صوت أهالي أموات حادثة مستشفى السلط في الأردن، صوت الفقد والهلع، صوت لحظة الغفلة المرعبة لنا جميعاً، صوت الموت على الأسرّة وحولها، دعونا نتفق على أن الموت لا يوجع الميّت، إنما يوجع الأحبة الذين خلّفهم وراءه هذا العزيز المسجّى على التراب ينتظر حضن الوطن يأويه بعد أن خذله مَن هم على سطحها، ولنتفّق أيضاً أن الموت في بلادنا العربية بات أرحم ألف مرّة من حياة الموت المستمر، ولا أظنها حالة يأس أو مغالاة بقدر ما هي حالة انفصام عن ما يجب أن يكون وما هو كائن، ووضعية التخدير المستمر للمواطن الذي لا يريد سوى أن يعيش كما يجب أن يعيش، كإنسان أولاً وأخيراً.
من المبكي والفظيع جداً أن نقول ونحن في القرن الواحد والعشرين "لقد كانت مأساة الدول العربية في أنبوبة أوكسجين" ألهذا الحدّ وصل بنا الحال، هل أصبحت بلادنا أضيق من أنبوبة أوكسجين. تخّيل أن يروي الفاقدين أحبتهم في مثل هذه الفاجعة لأبنائهم غداً أن أنبوبة أوكسجين قتلت "جدك، جدتك، عمك، عمتك، خالك، خالتك.." ما أضيق العيش لولا الأوكسجين، ونحن نفتقد للعيش وللأوكسجين.
ثمّ إن الفاجعة التالية التي تحلّ على الفاقد بعد فقده حبيبه بالموت، لغة الأرقام التي تتهافت الحكومات العربية على التحدث بها دون خجل "فقدنا 7 من أصل ملايين المصابين" إن الفرد الميّت في لغة الحكومة واحد، ولكنه في لغة عائلته كل الملايين التي تحصيها الحكومات، تسفيه الأمر الى لغة الأرقام يجعل من الفاجعة ألف فاجعة. فكم مرّة ستتكرر مثل هذه الحادثة وتكون ردود الأفعال لحظية، وبيانات الحكومات لا تُسمن ولا تغني من قهر إضافيّ؟
ما يجعلنا ننظر الى الحالة الواقعية المأساوية للإنسان العربي وما هي الأهوال التي يمكنه أن يراها في أوطانه، أنه ورغم مرور عام على تفشي وباء "كورونا"، إلا أننا ما زلنا نفتقد لإجراءات الوقاية المنطقية، أو حتى لبُنية تحتية للمراكز الصحية والطبية والمستشفيات تستوعب كمّ الإصابات المُعلن عنه يومياً، حقاً ماذا ننتظر؟ هل تسأل الحكومات العربية نفسها عن الحالة الشعورية التي يعيشها أهالي المصابين والمتواجدين على أسرّة المستشفيات؟ هل تعي معنى الخوف الذي يسيطر عليهم جراء حالة الترهل الطبية والصحية في مؤسسات الدول العربية؟ لا بدّ أن أهالي المصابين ينامون على خوف الفقد ويستيقظون عليه!
إن حكوماتنا وللأسف، أمنوا المحاسبة فأساؤوا إدارة السلطات، أمِنوا الملاحقة القانونية لأنهم الجلاد والحكم، فأساؤوا إدارة الأزمات، عيوننا نحو البلاد الغربية التي يُكرّم فيها الحيوان بعد الإنسان، نظرة على فلسفة العيش والخَلق والحقوق، إذا كانت أنبوبة أكسجين صعبة المنال في بلادنا، فهل تتعامل بلادنا معنا على أننا إنسان، كلا! الإنسان عندنا بلا قيمة والأوطان بلا هيبة، ولا تؤمن الحكومات بالقضاء والقدر إلا في فشلها، ونحن إن لم نمت قتلاً بماكينة الفساد، مِتنا قهراً.
هل هذا ما كنّا ننتظره من بلادنا التي طالما اعتقدنا أنها أرحب وأحبُّ إلينا من ذواتنا، هل باتت أوطاننا ضيقة الى هذا الحد، إذا كانت بلادنا تُسمى أوطاننا، فما هي الزنزانة إذاً؟ إذا كانت بلادنا تضيق على أنبوبة أكسجين، فـ في ماذا هي رحبة؟ هل حقاً بلادنا وإن جارت علينا عزيزة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.