في حياتنا اليومية التي لم تعد تقتصر على الدراسة أو العمل فقط، بل أصبحت تشمل الكثير والكثير من الأشياء المطلوبة لمواكبة دورة الحياة السريعة التي نحياها، أصبح كل فرد منا مُجبراً على الركض يومياً لتحصيل قدر كافٍ من المعرفة، للمذاكرة للحصول على نتيجة جيدة في امتحانات آخر العام، للاجتهاد بشكل أكبر في العمل حتى لا يتم اتهامه بالتقصير والإهمال، فيتعرض للجزاء أو الطرد نهائياً، ليصبح بين ليلة وضحاها مشرداً.
يتوجب على كل شخص أن يظلَّ مستيقظاً لأكبر قدر ممكن من الساعات ليُنجز أكبر قدر ممكن من المهام، التي بالكاد قد تمنعه من السقوط من دائرة حسابات جهة عمله، أو الرسوب في السنة الدراسية، وبالطبع الوقت الكافي لتصفح حسابات التواصل الاجتماعي، ليكون علی صلة ولو محدودة بما يحدث يومياً في الحياة الكئيبة.
خدعوك فقالوا!
في الحياة اليومية لم يعد لأي شخص عادي مكان في ظل ما نحياه من تطور إلكتروني يومي، بات من المفترض على كل شخص أن يُطوّر من نفسه، وبما أننا في عصر الآلة فمن الجائز أن نقول إن كل فرد في المجتمع بات عليه أن يُحدّث من نظام تشغيله يومياً، تماماً كأجهزة الهواتف التي نحملها، والأجهزة اللوحية وأجهزة الحاسوب التي نعمل بها.
وفي عصرنا الحالي، عصر توفر هذا الكم الهائل من المعلومات بثمنٍ بخس، فمن المفترض أن يعرف كل شخص منا أكبر قدر ممكن من المعلومات، صحيح أنه لا يحتاج لنسبة كبيرة من هذه الملعومات في حياته اليومية الواقعية، ولكن عصرنا الحالي يفرض على كل شخص الحديث في أي شيء على مواقع التواصل الاجتماعي أو في النادي، أو على المقهى، كنوع من أنواع الاستعراض الذي بات أسلوب حياة تصدّره حسابات المشاهير على مواقع التواصل. والحقيقة هي أن هذه إحدى أكبر آفات العصر، ألا وهي أنه يتوجب عليك الحديث كالآخرين في نفس الشيء، سواء كنت تفقه فيه أم لا، المهم أن تدلو بدلوك معنا، وإلا اتهمناك بأنك تدّعي تجاهل الأحداث لتحصل على كأس التميّز!
وللأسف هذه نقطة أخری من عيوب عصر السرعة، الذي سيطرت فيه مظاهر الحياة علی الحياة نفسها، أنه بات من المفترض أن يتحدث من لا يفقهون أي شيء ليصدروا كل مخلفاتهم الفكرية علی وسائل التواصل، وإذا كانوا من المشاهير فهذا يعني توجيه أكبر قدر من الناس لنصرة آراء واهية، في الحقيقة هي لا تستحق الذكر، ولكن رغبة البعض في لفت الانتباه أو المشاركة الفعالة في الأمور الرائجة وصلت بنا لرؤية ما لا يسر يومياً.
وبالنظر لعدة أمور بعين العقل، فإننا سنجد أن أكثر الآراء غرابة، وأحياناً أكثرها سلبية وبؤساً وتفاهة هي الآراء التي تنتشر، وذلك ما قد يحولها في بعض الأحيان لحقائق كاملة، بسبب كثرة تداولها والتصاقها بوعي الكثيرين، الذين في الغالب يكونون في مقتبل العمر، وفي سن قد يفضل فيه متلقّي المحتوی ترديد أي شيء بدلاً من التزام الصمت كالجاهلين.
عزيزي المتسرع.. تمهَّل
في رواية من روايات خلق الكون، خلق الله هذه الارض في ستة أيام، والله قادر على خلق ما يريد كيفما يشاء، وكان من الممكن خلق الكون في طرفة عين لو شاء الله، ولكن التمهل والتدبر صفات إلهية، قد يكون على البشر التمتع بها ولو بنسبة بسيطة جداً، نسبة كفيلة بأن تعفي جيلنا من هذا الكم الهائل من الضغوط النفسية التي يسببها الشعور بالتقصير تجاه الذات، والتي تسبب هذه الرغبة الجنونية في الحصول على كل شيء في أسرع وقت. إن ما نحياه في هذه الأيام حتماً قد يدفع الكثير منا إلى الجنون، مثلما يدفع البعض منا للانتحار من شدة اليأس في الحصول على أي شيء بسبب مشاعر الإحباط، أو عدم توفر الإمكانيات اللازمة لمواكبة عملية تطوير الذات اللازمة للحصول على مكانة مرموقة في أي مكان بأسرع وقت.
عزيزي المتسرع، كل الأشياء مقدرة، كل ما تستطيع أن تفعله افعله، ولكن تمهل، عليك معرفة ما تريده أولاً، ومن ثم وضع خطة، فلتكن طويلة الأجل، صدقني في الحقيقة لن يتوقف أي شخص عما يفعله للتصفيق لك والإشادة بما فعلت، فلتكن أنت الأكثر قدرة على الحفاظ على عقلك، وصحتك الجسدية والنفسية، لأن وقت سقوطك لن يشفع لك أي شخص بأنك كنت تحاول، سيتهمونك باليأس وبإهمال صحتك ومطاردتك لطَيْف الدخان، ثم سيعودون لمطاردة أطيافهم الخاصة، فلتعلم أن الحياة تجربة شخصية خاصة، لا شيء فيها أهم منك ومن صحتك ومن سلامة روحك، اترك لهم المعارك الكبرى واحصل على ما تريده بتأنٍّ، لأنك في النهاية ستحصل على الأشياء المكتوبة لك فقط، لن يمنحك أي شخص ممن تسعى لإبهارهم الذهب، ولن تنال نصف ما تستحقه من تقدير الآخرين لك ولتجربتك، فلتكن أنت أول من يقدر روحك التي لا تُقدر بثمن، فلتكن أنت المتمهل الوحيد بين كل أولئك المتسرعين، لتتمكن من الاستمتاع الكافي بما ستحصل عليه، أو لتتمكن من إعادة التجربة لعدة مرات دون أن تغرق روحك في اليأس.
لأنك في النهاية لن تتذوق طعم النجاح وأنت تعاني نفسياً من الضغط الذي حتماً سيدفعك للبحث عن المزيد فقط للحصول علی الشعور بالرضا، الشعور الذي لن يمنحه لك أي شخص، الاستراحة في بعض الأوقات واجبة لالتقاط الأنفاس والاحتفال بالإنجازات الصغيرة والكبيرة، التوقف مطلوب لمعرفة قيمة ما وصلت إليه وللتمتع به، لمكافأة نفسك التي ترهقها في كل شيء، صدقني ستمر الأيام، ستتخرج في الجامعة الصعبة، وستنتهي أيام الامتحانات وليالي المذاكرة المرهقة، ستحصل علی عمل، وستصل فيه لعدة مناصب، ستحصل علی ما تريده، ولكني لا أضمن لك الحصول علی الشعور بالسعادة أو الرضا جراء الوصول، لأن استنزاف روحك وإجهاد عقلك لن يسمح لك بالحصول علی تلك المشاعر، وحدها الروح الهادئة هي التي يمكنها أن تمنحك الراحة، العقل الهادئ فقط هو الذي سيمنحك الشعور بالسعادة، وتذكّر دوماً نصيحتي لأننا متشابهان في الكثير من الظروف، نعيش في الأرض نفسها، وتقلقني الأشياء نفسها، ولكنني أخبرك ما أعرفه، فأتمنی أن تصلك نصيحة شخص مرهق جداً من الحياة السريعة، وأن تنفعك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.