الانقلاب الذي قام به قادة الجيش في ميانمار مطلع الشهر الماضي يعيد إلى الأذهان تجارب الانقلابات العسكرية وشهوة العسكر لكرسي السلطة في العديد من الدول الآسيوية والإفريقية وأمريكا اللاتينية التي تعاني من ضعف البنية التحتية لمؤسسات الحكم أو خلافات سياسية تعطي العسكر فرصة للتدخل في مجال ليس من اختصاصهم. وقد كانت ذريعة الجيش في ميانمار للانقلاب على الحكومة المنتخبة قبل أشهر قليلة أن هناك مزاعم تزوير في الانتخابات من المعارضة (التي يدعمها الجيش). وقد وقع الانقلاب في الوقت الذي كان يجتمع فيه البرلمان للتصديق على فوز حزب "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" بالانتخابات الأخيرة وبدء الحكومة الجديدة ممارسة عملها.
دخلت ميانمار في أزمة سياسية وأمنية لا تزال مستمرة بعد مقاومة الشارع لانقلاب الجيش وإطاحته بالحكومة المنتخبة واحتجاز سياسيين كبار مثل السياسية المعروفة الحائزة على جائزة نوبل أونغ سان سو تشي وغيرها من كبار السياسيين، وشكّل مجلساً عسكرياً حاكماً من قادة الجيش. وفي علامة أخرى على استفادة الديكتاتوريين من التنافس (والمساومات) واختلاف وجهات النظر بين القوى الكبرى، أخفق مجلس الأمن الدولي الثلاثاء الماضي في الاتفاق على بيان كان سيندِّد بالانقلاب في ميانمار ويدعو الجيش للتحلّي بضبط النفس ويهدد بالنظر في "إجراءات أخرى"، وذلك بسبب اقتراح الصين وروسيا والهند وفيتنام إدخال تعديلات على مسودة بريطانية لحذف الإشارة إلى انقلاب والتهديد بالنظر في اتخاذ مزيد من الإجراءات.
تحرُّك الجيش في ميانمار -الذي يعتبر امتداداً لتحركات سابقة حدثت خلال العقود السابقة منذ حصول هذه المستعمرة البريطانية السابقة على استقلالها- يذكّر بالذرائع التي يفتعلها القادة العسكريون للتدخل في السياسة في الكثير من بلدان العالم الثالث. لكن الشيء الجدير بالملاحظة هو السمات المشتركة بين القادة العسكريين الطامعين في الحكم في بلد مثل ميانمار، وبلد آخر بعيد جغرافياً وثقافياً وحضارياً من ميانمار هو السودان، حيث يسعى القادة العسكريون فيه إلى اقتناص أي فرصة للسيطرة على مقاليد الحكم في هذا البلد الذي ابتُلي بعدوى الانقلابات العسكرية منذ خمسينيات القرن الماضي.
شهد السودان انقلابه العسكري الأول بعد أقل من ثلاث سنوات على حصوله على استقلاله في عام 1956، عندما أقنع رئيس الوزراء حينها عبد الله خليل وزير الدفاع إبراهيم عبود بالقيام بانقلاب عسكري بسبب غضبه من خلافات السياسيين في الحكومة الوليدة. وصارت بعدها بدعة سيئة أن تستعين الأحزاب العقائدية بالجيش في تنفيذ مخططاتها للاستيلاء على الحكم. حيث فعلها الحزب الشيوعي في عام 1969، وفعلتها الجبهة الإسلامية في 1989. ويحاول العسكريون بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان وقائد ميليشيا قبلية طموح فعل نفس الشيء، لكن عن طريق الاستعانة بقوى إقليمية هذه المرة. والشيء المثير للسخرية في محاولات الشيوعيين والإسلاميين استخدام العسكر للانقلاب على الديمقراطية أن العسكر كانوا ينقلبون عليهم وينفردون بالحكم في أقرب فرصة. ولا يستبعد حدوث نفس السيناريو للداعمين الخليجيين لعسكر السودان في حال استطاعوا الاستيلاء على الحكم في البلد.
نفس الشيء حدث في ميانمار التي شهدت عدة محاولات من الجيش للانقلاب على الحكم في البلد الذي حصل على استقلاله في عام 1947، حيث استولى قادة الجيش على الحكم مرتين في 1988 و1997. ومثلما قُتل المئات واعتقل الآلاف في الاحتجاجات المتكررة كل عدة سنوات على الحكم العسكري في السودان، شهدت الاحتجاجات السابقة ضد الحكم العسكري في ميانمار في انقلابي 1988 و2007، مقتل أعداد كبيرة من المتظاهرين على أيدي قوات الأمن، حيث قُتل ما لا يقل عن 3 آلاف متظاهر في عام 1988 وفقد 30 شخصاً حياتهم في عام 2007. وسُجن الآلاف خلال الأحداث.
ومثلما اعتمد جنرالات السودان على دعم بعض دول الخليج في محاولتهم للتآمر على التحول الديمقراطي، يعتمد جنرالات ميانمار على الدعم الإقليمي من جيرانهم في الصين والهند وفيتنام، بجانب روسيا بوتين التي تقف بالمرصاد لكل تحركات الدول الغربية في مجلس الأمن. فقد أصدر مجلس الأمن بياناً لوسائل الإعلام الشهر الماضي عبّر فيه عن قلقه من حالة الطوارئ التي فرضها جيش ميانمار ودعا إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين، لكنه أحجم عن إدانة الانقلاب بسبب معارضة روسيا والصين. وقال دبلوماسيون إنه من غير المرجّح أن يتم النظر في فرض عقوبات في أي وقت قريب لأن مثل هذه الإجراءات ستلقى معارضة من الصين وروسيا.
الشيء الآخر المشترك بين القادة العسكريين في السودان وميانمار هو استعانتهم بشركات علاقات عامة مشبوهة لتحسين سُمعة قادة البلدين في الغرب، حيث تعاقد قادة الانقلاب العسكري في ميانمار الأسبوع الماضي مع الإسرائيلي الكندي، آري بن ميناشيه، لتحسين صورة الجيش و"شرح موقفه مما تشهده البلاد أمام الحكومة الأمريكية". بينما فعل الشيء نفسه قبل أقل من عامين الفريق محمد حمدان دقلو الشهير بـ(حميدتي)، حيث وقّع في السابع من مايو/أيار 2019 ممثلاً عن المجلس العسكري السوداني، اتفاقاً بقيمة 6 ملايين دولار مع نفس الشركة ونفس الشخص لتحسين صورة المجلس العسكري السوداني لدى الغرب ومنظمات الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي للحصول على اعتراف دبلوماسي بشرعيته.
ويمتلك بن ميناشيه، الذي تعاقد معه جنرالات السودان وميانمار شركة "ديكنز وماديسون" ومقرها كندا، والمرتبطة بجماعات الضغط السياسي. ووفقاً للاتفاق مع قادة الانقلاب العسكري في ميانمار، والذي تبلغ قيمته ملياري دولار، ستمثل شركة بن ميناشيه مصالح جيش ميانمار في واشنطن. لكن الشيء الجيد أن الرئيس الأمريكي جو بايدن وافق على إصدار أمر تنفيذي بفرض عقوبات على قادة الانقلاب في ميانمار. وستركّز الإجراءات على القادة العسكريين وأفراد أسرهم والشركات المرتبطة بهم. وتدرس إدارة بايدن اتخاذ إجراءات لمنع وصول الجيش إلى مليار دولار من الأموال الحكومية الموجودة في الولايات المتحدة.
وكان بايدن قد دعا جنرالات ميانمار للتراجع عن الانقلاب وإطلاق سراح القادة المدنيين، وتعهد باتخاذ مزيد من الإجراءات إذا لزم الأمر، قائلاً إن إدارته "ستقوم بتجميد الأصول الأمريكية التي تفيد الحكومة البورمية، مع الحفاظ على دعم الولايات المتحدة للرعاية الصحية، ومجموعات المجتمع المدني". ونفس الأمر حدث بالنسبة للسودان، حيث أقرّ الكونغرس في ديسمبر الماضي "قانون الانتقال الديمقراطي في السودان والمساءلة والشفافية المالية لعام 2020″، الذي يهدف لدعم التحول الديمقراطي في السودان ومنع سيطرة الجيش والميليشيات على مفاصل الدولة السياسية والمالية. وهو قانون تم إقراره بعد التراجع المشين لإدارة ترامب عن دعم عملية التحول الديمقراطي في السودان وترك أمر هذا البلد لحلفاء ترامب في المنطقة الذين لا يرغبون في رؤية تجربة ديمقراطية في جوارهم الإقليمي.
تجربة العسكر في التآمر على الديمقراطية في ميانمار والسودان متشابهة إلى حد كبير كما رأينا في الشواهد المذكورة في هذا المقال. فبالرغم من الاختلافات الثقافية والحضارية والبعد الجغرافي بين البلدين، توضّح تصرفات الجنرالات أن العقلية العسكرية الديكتاتورية تقرأ من نفس الكتاب وتتبع نفس الوسائل لتعزيز سيطرتها على الحكم. وهي وسائل معظمها غير أخلاقي. وحادثة فض الاعتصام في الخرطوم في منتصف عام 2019 التي نتج عنها مقتل أكثر من 100 شخص، بينما قُتل أكثر من 50 شخصاً في ميانمار حتى الآن في الاحتجاجات التي لم يتجاوز عمرها الشهر. وهناك احتجاز لآلاف السياسيين والمتظاهرين وتهديد بالفصل من العمل للموظفين الحكوميين المضربين عن العمل، وهي ذات الأساليب التي اتبعها جنرالات المجلس العسكري في بداية محاولاتهم لوأد التحول الديمقراطي في السودان. وكلنا أمل في أن يتم تقليم أظافر جنرالات الجيش مثلما حدث في دول مثل تركيا في الفترة الأخيرة، أو فرنسا وإسبانيا وكوريا الجنوبية وتشيلي وغيرها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.