"منذ عام 2001 وحتى عام 2004 على الأقل عملت إدارة المخابرات العامة الأردنية كسجانٍ توكيليٍ (مفوضٍ لفائدة وكالة المخابرات الأمريكية CIA). قامت بحجز السجناء المطلوبين من CIA، وسلمت قسماً منهم إلى CIA لاحقاً. من بين هؤلاء الموريتاني محمدو ولد صلاحي وثلاثة عشر سجيناً آخرون على الأقل تم نقلهم إلى الأردن خلال هذه الفترة، حيث كانوا معتقلين في المقر الرئيسي لإدارة المخابرات العامة في عمان، الذي يقع في منطقة الجندويل".
من تقرير "شقاء مزدوج: عمليات الترحيل الاستثنائي إلى الأردن من قِبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكي"، الصادر عن منظمة مراقبة حقوق الإنسان عام 2008.
في فيلم الموريتاني يقدم لنا كيفن ماكدونالد جرعةً جديدةً من سينما التوبة لدى الأمريكيين، من الجرائم التي ارتكبتها أقوى دولةٍ في العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، ضدّ آلافٍ من الأبرياء المعتقلين قسراً لديها ولدى حلفائها، ناهيك عن الحروب منفلتة العقال، التي شنتها إدارة الجمهوري جورج بوش "الابن" وإدارة الديمقراطي أوباما، مدمرةً دولاً مستقرةً وناشرةً القتل والدمار فيها، بحجة الانتقام و"نشر الديمقراطية"!
يقوم الممثل الفرنسي من أصلٍ جزائريٍ طاهر رحيم بدور الموريتاني محمدو ولد صلاحي المعتقل في خليج غوانتانامو الكوبي المحتلّ من قبل أمريكا، والذي أقامت فيه معتقلاً شهيراً بُعيد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، طبّقت فيه استراتيجيات تحقيقٍ وتعذيبٍ غير مسبوقةٍ بمعرفة ورضا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد، ولاحقاً تحت رعاية إدارة الليبرالي أوباما، الّذي رفض إخلاء سبيل الموريتاني، رغم مكوثه في المعتقل 14 عاماً دون توجيه تهمٍ.
قصّة الموريتاني ولد صلاحي هذا وغيره الكثيرون من معتقلي غوانتانامو وغيرها من السجون التي تهيمن عليها بلاد العم سام، تظهر لنا صورةً حقيقيةً عن الوجه الغاشم لهذه الديمقراطية المدّعاة، حتى وإن حاول مريدوها الليبراليون تصوير الأمر على غير ذلك، ولكنّ هذا الأمر لا يلغي دور الفاعل الإنساني المقاوم لهيمنتها الإمبريالية، حتى في داخل الإمبراطورية الأمريكية ذاتها، وهو الدور الذي مثّلته نانسي هولاندر (المبدعة جودي فوستر) محامية ولد صلاحي والمناضلة من أجل الحقوق المدنية، وحتى داخل المؤسسة الرسمية الأمريكية، كما هو حال العقيد ستيوارت كوتش (بنديكت كومبيرباتش).
ولد صلاحي الّذي وثّق تجربته الفريدة في كتابه يوميات غوانتانامو ، والّذي- أي نشر الكتاب- ساهم في إطلاق سراحه، كان ضحية الدعاية الأمريكية أولاً عبر قتاله في أفغانستان، قبل أن يعود ويصبح ضحية انتقامها من فشلها الذريع، الّذي توجته أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، فأمريكا نفسها هي من أسهم في خلق وحش القاعدة، قبل أن يرتد ذلك عليها وبالاً.
ظاهرة بيترسون
لم تفِ مناظرة القرن بين الفيلسوف الهيغلي سلافوي جيجيك وعالم النفس الكندي جوردان بيترسون بوعودها من حيث زخم الأفكار ودقة الأطروحات حول الماركسية والرأسمالية والسعادة مواضيع المناظرة، خصوصاً أن وسائل الإعلام والمتتبعين للشأن الثقافي والأيديولوجي كانوا يقارنونها بمناظرة تشومسكي-فوكو حول الطبيعة البشرية مطلع ثمانينات القرن الماضي، ولكنّ المناظرة وفّرت فرصةً للعالم لمواكبة أفكار عالم النفس الكندي بيترسون، الّذي شكّل صعوده ظاهرةً ترافقت مع عودة اليمين المتطرّف للهيمنة على السلطة في عددٍ من دول العالم.
في هذا الفيلم الوثائقي الذي يتناول صعود ظاهرة بيترسون، تعرّفنا باتريشيا ماركوتشيا على جزءٍ من المنظومة الفكرية والفلسفية التي يرتكز إليها بيترسون، مع التعريج على عددٍ من الأحداث التي أسهمت في صعود ظاهرة عالم النفس الكندي هذا.
بيترسون الذي يستشهد في الفيلم وفي أعماله عموماً بأفكار وأطروحات عالم النفس الشهير كارل يونغ، خصوصاً في علم النفس الاجتماعي ودوره وتأثيره- أي علم النفس الاجتماعي- في الوصول إلى مجتمعٍ سويٍّ إلى حدٍّ ما، نجده يناقض أطروحات يونغ عبر شعاراتٍ ليبراليةٍ فارغةٍ، على غرار: نظّف غرفتك بدايةً، حيث يروّج لمبدأ التغيير الليبرالي الفرداني، في مواجهة ما يطلق عليه "اليسار الراديكالي"، الذي يحاول التغيير الجماعي في شكل العلاقات الاقتصادية والسياسية في المجتمع، وهي الوصفة التي يهاجمها بيترسون، انطلاقاً من قراءةٍ مختزلةٍ للتاريخ، تربط التغيير اليساري هذا بالديكتاتورية الستالينية واللينينية بحسب تعبيره.
بيترسون لا يعد نفسه يمينياً كما يصنفه اليساريون، وإنّما يدعي وقوفه على خط المنتصف بين اليمين واليسار، ولكن ما معنى هذا عندما نتناول أفكار بيترسون المتوائمة مع المنظومة الفكرية الليبرالية، والتي تعبّر اليوم عن نزعاتٍ يمينيةٍ خطّتها نيوليبرالية تاتشر وريغان، وإن بدت أطروحات الهوية فيها تعزيةً لمّن يود صبغ الليبرالية الثقافية "على الأقل" بصبغةٍ تقدميةٍ.
إظهار بيترسون لآرائه وكأنّها عرضٌ للحقيقة فحسب دونما أي تحيزاتٍ أيديولوجيةٌ، هو في الحقيقة جوهر الليبرالية أو بالأحرى جوهر زيفها، خصوصاً عندما تتجه هذه الليبرالية نحو المحافظة السياسية والاجتماعية، تجاه المرأة وقضايا الجندر متناولةً إياها من وجهة نظرٍ تسطيحيةٍ، تتناسى قروناً من الهيمنة الذكورية والحكم الأبوي.
الفيلم يركّز كثيراً على تفاهة الصوابية السياسية "ولا أخالف بيترسون فيها، كما لم يخالفه جيجيك"، ولكنّه في المقابل يشير كثيراً إلى يسارٍ راديكاليٍ، يقوم بأفعالٍ صبيانيةٍ "يظهرها الفيلم"، دون عرضٍ لوجاهة رؤية هذا اليسار في القضايا محل النقاش، وهو ما يضفي على الفيلم صبغةً تتوافق تماماً مع أطروحات بيترسون، حتى وإن تم عرض آراء مخالفةٍ "بلا حجةٍ في الحقيقة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.