الوعي ليس هو الإحساس ولا هو الشعور؛ فالإحساس هو الذي يربطك بالعالم الخارجي عن طريق الحواس. والشعور هو الذي يربطك بالعالم الداخلي، المكون من عواطفك وتفكيرك وذكرياتك.
كما أن الوعي لا يعني المعرفة؛ فالمعرفة هي منتوج الخبرات والتجارب التي يكتسبها الشخص، عن طريق الاحتكاك بين الأنا والواقع. والذي يُخزن (المنتوج) في الذاكرة بعد تجاوزها مواضع الإحساس والشعور.
فالوعي لا يعني الإحساس بالألم أو باللذة، ولا يعني التفكير الثقافي أو العلمي أو الفلسفي، ولا يعني الشعور بالحب أو الكراهية.
الوعي الفردي
الوعي كمفهوم بسيط هي نظرة تتجاوز الواقع الآني والحاضر، وكل مايُحيط بها من أحاسيس ومشاعر آنية وسطحية، مُتجاوزِةً إيّاها إلى إدراك الألم أو اللذة قبل الإحساس أو الشعور بهما. ولا يتم هذا إلا عن طريق استيعاب الأحاسيس والمشاعر الآنية والحاضرة، عن طريق الذاكرة، واستثمارها لفهم الواقع وسط صيرورته، وليس في آنيته. يعني إدراك الحدث قبل وقوعه، وإدراك الألم قبل الإحساس به. فمثلاً إذا رأيت كلباً مسعوراً يتجه نحوك، فلن تنتظره حتى يقترب منك ويعضك ثم تستنتج أنه كلب خطير. وإنما بوعيك المُعتمد على معرفتك الواقعية وعواطفك الشعورية، المُخزنة داخل الذاكرة، ستستطيع أن تستنتج أن الكلب إن اقترب منك، فإنه – لا محالة – سيعضك، فلا حل إذن سوى الهرب، وإن لم تفعل ذلك فهذا يعني أنك فاقد لوعيك.
وبالفعل، فالوعي يتجاوز الإحساس والشعور الآنيين، ويفهم ما سيجري في المستقبل، عن طريق استثمار ما خُزن في الذاكرة. وهذا الوعي عام وذو صبغة بشرية، يعني يشمل جميع البشر، باستثناء المُختلين. وأسمي هذا الوعي: بالوعي الفردي.
الوعي الإنساني
بعد أن فهمنا الوعي على مستواه البسيط، سننتقل إلى الوعي على مستواه المركب، وهو ما أسميه بالوعي الإنساني، وهو وعي يتجاوز الفردية، ويسمو فوقها، إلى ما هو نوعي، ويرتبط بالمصير الإنساني. فلا يعود الفرد يُدرك الألم الذي سيمسه (كفرد) قبل أن يحدث فحسب، بل يُدرك الألم الذي يُصيب الفرد الآخر، ويُدرك الألم الذي سيُصيب الإنسان قبل حدوثه.
هذا الوعي، هو وعي يتجاوز الفردية، وما يتعلق بها من لذة أنانية وآنية، ويسمو فوقهما، ليُدرك أنه جزء من كلٍّ، مصيره (أي مصير هذا الكل) يتحكم في مصيره هو كفرد. لكن هذا الوعي، هو وعي ضعيف أمام الوعي البسيط وأمام الأحاسيس والشعور، وهذا ما يجعل تأثيره في المجتمع تأثيراً جد ضعيف. لأنه لا يأخذ مساحة كبيرة من حياة الأفراد، ولا يمكن اكتسابه، إلا إذا استوعب الفرد بعض الأمور.
كيف يمكن اكتساب الوعي الإنساني؟
لا يستطيع الفرد أن يصل إلى مرتبة الوعي الإنساني، إلا إذا استوعب أن الفرق بينه وبين الآخرين، ما هو إلا فرق في الحظ والزمان والمكان.
الحظ
الحظ، ما هو إلا إمكانية واحتمال، يتأرجح مفعوله من جيد إلى سيئ. فالحالة التي يعيشها فرد ما سواء كانت سيئة أو جيدة، فما هي إلا إمكانية قد أصابته، كان بالإمكان أن يعيشها فرد آخر. فمثلاً الحالة الاجتماعية التي يعيشها فرد ما، ما هي إلا إمكانية كان سيعيشها فرد آخر. والألم الذي يعيشه فرد ما، ما هو إلا إمكانية، كان بالإمكان أن يعيشها فرد آخر. إذن، رؤية الآخر يتألم، يجب أن تُفهم على أنها إمكانية، كان يمكن أن تعيشها أنت أيضاً، لكنها تحولت إلى الآخر. فما يعيشه الآخر، هو في الحقيقة، عيشك أنت لو كان الحظ الذي مسّه قد مسّك أنت.
المكان والزمان
أما بالنسبة للمكان والزمان، فهما اللذان يحكمان على العالم بالتغير والتفرقة، فالموقع الذي تحتله في فترة زمنية معينة، هي مجرد حالة من حالات متعددة ومختلفة تتعرض للتغير. فحالتك في هذا المكان، كانت ستكون حالة فرد آخر، لو وقع في هذا المكان، يعني أن حالتك التي تعيشها، هي حالة مختلفة عن حالة الآخر، لأن مكانك ومكانه مختلفان فقط.
فالمكان تحكمه الظروف التي تختلف بين الحوافز والعوائق. فرغبتك لتعيش حالة معينة، سيجعلك تعمل للوصول إليها، فتجد أمامك عوائق وحوافز، فإن كانت الحوافز أكثر من العوائق، فإنك ستصل للحالة، لكن إن كان العكس، فستحدث لك انتكاسة.
إذن، الحالة التي تعيشها هي هبة المكان الذي تتواجد فيه، فإن اختلفت حالتك عن حالة الآخر، فالاختلاف – في الحقيقة -ما هو إلا اختلاف في المكان بينكما. فلو أنه (الآخر) وُجد في مكانك فإنه بالإمكان (حسب الحظ) أن يعيش حالتك، وإن وُجدت أنت في مكانه فإنك بالإمكان أن تعيش حالته.
أما الزمان، فهو الذي يُعرض الحالة للتغير، فما تعيشه الآن، يتعرض لتغير. يعني أن حالتك هذه غير ثابتة، فقد تجد نفسك، تنتقل من حالتك إلى حالة الآخر. يعني أن مايعيشه الآخر، في أية لحظة زمنية يمكن أن تعيشها أنت أيضا في لحظة زمنية أخرى.
الخلاصة
إذًا، كل ما يتعرض له الآخر في الواقع، يمسّك أنت أيضًا، حتى وإن لم تشعر بذلك أو تُحس به. فالاختلاف في الحظ والمكان والزمان، هم من جعلوا للفردية وجوداً. أما الحقيقة هو أن جميع الأفراد مترابطين في الإنسانية. فإن لم نحس بذلك أو نشعر به، يجب أن نُدركه عن طريق الوعي الإنساني.
ففي الظلم مثلاً. نجد أن صاحب الوعي الفردي يندد بالظلم إن أصابه أو يكاد، أي لا يُندد به، إلا إذا كان ضحية له أو أدرك أنه سيكون كذلك. أما إن لم يحدث أيٌّ منهما، فهو يُحاول أن يتجنبه ما أمكن. أما صاحب الوعي الإنساني فهو يندد بالظلم؛ لأنه يتأكد أنه خطر على الإنسانية، مُتجاوزاً بذلك فرديته الأنانية. فالظلم ليس خطراً على الفرد فحسب، بل على الإنسانية ككل، لأن أي فرد لا يقبل أن يُصبح ضحية له، فحتى الظالم لا يقبل أن يُصاب بالظلم.
لهذا، صاحب الوعي الفردي هو شخص أناني، لو وجد في نفس حالة الظالم لفعل نفس الأمر. أما صاحب الوعي الإنساني فحتى ولو وُجد في نفس حالة الظالم، فإنه لن يقوم بتلك الممارسة؛ لأنه يدرك بوعيه الإنساني أنها خطر عليه كإنسان وليس كفرد، بمعنى أنه (الظلم) يمس مصير الإنسانية وليس مصير الفردية. وهنا وبقدرة الوعي الإنساني، استطاع هذا الشخص أن لا يعيش حالة الظالم، بالرغم من جبرية الحظ والمكان والزمان، إذًا استطاع أن يقضي على هذه الجبرية.
وبالتالي فإن الوعي الإنساني هو الذي يعطي للفرد القدرة على الاختيار القوي، الذي يستطيع من خلاله أن يخرج من جبرية الحظ والزمان والمكان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.