يمثل المستشار طارق البشري، يرحمه الله، مع مجموعة من المفكرين المصريين، من أمثال المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة، والدكتور عبدالوهاب المسيري، والدكتور أحمد كمال أبو المجد، يرحمهم الله جميعاً، والأستاذ فهمي هويدي، والدكتور سيد دسوقي حسن، والدكتور سليم العوا، والدكتور سيف الدين عبدالفتاح، والدكتورة نادية مصطفى، وغيرهم كثير؛ المدرسة الوسطية في الفكر والحضارة الإسلامية بتشعباتها المتنوعة، التي تبنّت مجموعة من الباحثين، منهم: الدكتور إبراهيم البيومي غانم، والأستاذ هشام جعفر، والدكتورة هبة رؤوف عزت، والدكتور رفيق حبيب، ومجموعة من السياسيين، منهم أبوالعلا ماضي، والدكتور محمد عبد اللطيف، والأستاذ عصام سلطان، وغيرهم كثير.
والهدف الأبرز لهؤلاء جميعاً هو السعي لنهضة مصر فكرياً وثقافياً، لأنها تمثل في الحقيقة قلب العروبة والإسلام، رغم كل التحديات والمؤامرات التي تحاك بها. ومثّل البشري مع عمارة، والعوا، وهويدي رمّانة الميزان لهذا الفكر المستنير، الذي تحتاجه الأمة بأسرها.
لقد واجه البشري بقلمه الحر، وفكره المستنير، وحكمته البالغة كل مظاهر الاستبداد على مر العصور بداية من عبدالناصر، مروراً بالسادات ومبارك، وصولاً إلى السيسي الذي انقلب على رئيسه محمد مرسي.
وبدأ المستشار البشري تحوله إلى الفكر الإسلامي بعد هزيمة 1967، وكانت مقالته عن "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي"، أول ما كتبه في هذا الاتجاه.
ولم يتوان الحكيم البشري عن إسداء النصح الدائم لجماعة الإخوان المسلمين على مدار عشرات السنين؛ لأنه كان يرى أنها أهم مؤسسة دعوية وفكرية في العصر الحديث، على الرغم من الانكسارات التي قابلتها، والإخفاقات التي وقعت فيها، فكان دائماً، يرحمه الله، خير ناصح أمين لقياداتها، وظهر ذلك في العديد من كتاباته، ومؤلفاته، ولقاءاته الشخصية.
كما كان شديد الإيمان بوحدة الشعب المصري الوطنية، وأنها لا بد أن تقوم على حقوق المواطنة بين مكونات النسيج المصري مسلميها ومسيحيها، وكانت له مواقف حازمة في هذا الشأن، وبالتأمل للعديد من مؤلفاته تتضح هذه الصورة الناصعة التي مثّلها بوضوح المستشار البشري.
ومن هذه المؤلفات التي أثرى بها الحياة الفكرية: "الحركة السياسية في مصر 1945-1952″، و"الديمقراطية ونظام 23 يوليو"، و"المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية"، و"بين الإسلام والعروبة"، و"منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي".
وقبل خمس سنوات من ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 أصدر كتاباً بعنوان "مصر بين العصيان والتفكك"، اعتبر فيه أن العصيان المدني فعلٌ إيجابي يلتزم عدم العنف، ويقوم على تصميم المحكومين أن "ينزعوا غطاء الشرعية" عن "حاكم فقد شرعيته فعلاً" منذ زمن.
وانتقد البشري في مقالات وتصريحات عدداً من مواد الدستور الذي تم الاستفتاء عليه في عهد الرئيس مرسي، كما سبق له التأكيد على بطلان جميع الإعلانات الدستورية التي أصدرها الرئيس مرسي في 11 أغسطس و21 نوفمبر 2012، وعارض بقوة عزل النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود، وتعيين المستشار طلعت عبدالله بدلاً منه في 22 نوفمبر 2012.
موقف المستشار البشري من الانقلاب العسكري في مصر
بعد وقوع الانقلاب على أول رئيس مدني منتخب ديمقراطياً، في الثالث من يوليو 2013، أطلق المستشار البشري، النائب الأول لرئيس مجلس الدولة في مصر سابقاً، تصريحات عبر صحيفة الشروق المصرية، نُشرت تحت عنوان: "الإطاحة بمرسي انقلاب على دستور ديمقراطي"، ثم كتب مقالاً ضافياً ووافياً في العاشر من يوليو بعنوان: "الصراع القائم الآن هو بين الديمقراطية والحكم والانقلاب العسكري، وليس بين الإخوان ومعارضيهم"، وأتبعه بمقال آخر بعنوان: "ما معنى الانقلاب العسكري"، انتهى فيه إلى أن ما جرى انقلاب مكتمل الأركان.
وكان من تصريحاته يوم الانقلاب: "الحقيقة أن القوات المسلحة التي ساهمت مساهمة بنّاءة وتاريخية في تحقيق أهداف ثورة 25 يناير، وإدارتها المرحلة الانتقالية حتى تسليم السلطة إلى رئيس مدني منتخب، هي اليوم بقيادتها الجديدة تنتكس على هذه الثورة، وتقيم نظاماً استبدادياً من جديد".
واعتكف البشري في منزله بعد أحداث رابعة العدوية في الرابع عشر من أغسطس 2013، وآثر الابتعاد عن المشهد السياسي في مصر بسبب الانقلاب العسكري، حتى وافته المنية يوم الجمعة في السادس والعشرين من فبراير 2021.
منتدى السياسات والحكيم البشري
كان لي شرف القرب من المستشار البشري بشكل أكبر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، حيث عزمت على العمل العام بشكل مستقل، وكان التفكير في إنشاء مؤسسة باسم "منتدى السياسات والاستراتيجيات البديلة" مع مجموعة من الزملاء المستقلين عن أي تنظيم حزبي، أو أيديولوجي.
ومثّل البشري لنا التوجيه المباشر، والنصح الحكيم، حيث كان على رأس الهيئة الاستشارية العليا، مع العديد من المفكرين، أمثال: الدكتور محمد كمال إمام، والدكتور عاطف البنا، والدكتور صلاح عبد المتعال، والدكتور ثروت بدوي، والدكتور عبد المنعم المشّاط، رحمهم الله جميعاً، والدكتور عبد الله الأشعل، والدكتور سيد دسوقي حسن، والمستشارة نهى الزيني، والدكتور سيف الدين عبد الفتاح.
وكان الهدف من هذه المؤسسة أن تكون بيت خبرة متكاملاً يضم نخبة من أساتذة الجامعات، والخبراء، والمفكرين، والإعلاميين، ورجال الأعمال، والأفراد المعنيين بحاضر ومستقبل الأمة، وهو بيت لكل وطني حر، ومستقل، ومسؤول يسعى من أجل بناء الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، ويشتمل على عدة وحدات هي:
الديمقراطية والحكم الرشيد، والاقتصاد والعدالة الاجتماعية، واستقلال القضاء وسيادة القانون، والتعليم والبحث العلمي، والتنمية المستدامة، والعلاقات الخارجية والأمن القومي، والمرأة والطفل، وحقوق الإنسان، والتراث والثقافة، والإعلام.
كل هذه الوحدات كان على رأسها متخصص في نفس المجال، حتى يستطيع التواصل مع الخبرات المتميزة لبناء مصر الحديثة، وكان لهذا المنتدى ميثاق من 10 نقاط، تم الاتفاق عليه مع المجموعة المؤسسة، وقمت بعرضه على المستشار البشري، حتى نسعد بتوجيهات، وتوصياته، وكانت بنوده:
- المنتدى وعاء علمي، وبيت خبرة مستقل جامع لخبرات وتخصصات علمية ومهنية متنوعة تستهدف صالح الأمة ونهضتها.
- المنتدى يتجاوز الأيديولوجيات، والانتماءات السياسية والحزبية، ويعمل بروح جماعية ليتصدى للقضايا والتحديات التي تواجه الأمة في الحاضر والمستقبل.
- يعمل المنتدى وفقاً لأدوات وأساليب المنهج العلمي ليشخّص الواقع ويقيّمه، ويستطلع المستقبل ويقدّم البدائل وفق معايير الكفاءة والواقعية والمعاصرة.
- يلتزم المنتدى معايير الشفافية والمكاشفة، ويؤمن بالتعددية في الرأي وأسلوب الحوار البنّاء، والمسؤولية الجماعية كمبادئ وقيم تعكس روح الفريق، وآليات العمل المؤسسي.
- يسعى المنتدى فيما يقدمه من سياسات واستراتيجيات إلى إشباع حاجات وتطلعات فئات وقطاعات المجتمع المختلفة بحسبانها حجر الزاوية لأنشطة وجهود المنتدى.
- عضوية المنتدى مفتوحة للعلماء، والخبراء، والمفكرين، وأصحاب الرؤى ذوي الخبرة في التخصص، والاستقلال في الرأي، والإخلاص من أجل نهضة الأمة.
- يؤمن المنتدى بأهمية الإعلام، والرأي العام ودورهما في بناء نظام تفاعلي مفتوح يضمن التعلم والتصحيح الذاتي، والاستبصار بالاحتياجات المستقبلية.
- يحرص المنتدى في عمله على التواصل مع كل مؤسسات البحث العلمي الحكومية والخاصة، ومراكز دعم المعلومات المحلية والإقليمية والعالمية، ويؤسس لشراكات فاعلة مع المنتديات المماثلة.
- ينأى المنتدى وأعضاؤه عن أساليب التشهير والتجريح، ويلتزم مبادئ الموضوعية، والأمانة، والتوازن في تقييم السياسات والبرامج القائمة.
- ينهض المنتدى على الجهود الذاتية للأعضاء، ولا يقبل أي دعم يمكن أن يؤثر على سياسات ونظم العمل للمنتدى.
وكان لنا تواصل مع عموم المثقفين في مصر من خلال صالون المنتدى الشهري، الذي كان يُعقد في مركز إعداد القادة لإدارة الأعمال في وسط الجيزة بحي العجوزة، الذي كان يديره، وقتها، المهندس الشهم، والرجل المحترم، والسياسي الرزين "يحيى حسين" فك الله سجنه.
رحم الله المستشار الكبير طارق البشري، الإنسان النبيل، والقاضي العادل النزيه، والمؤرخ الثقة المنصف، والفقيه الراسخ، والمفكر الملهم، والمصري الأصيل المهموم بشؤون وطنه وأمته العربية والإسلامية. أسأل الله أن يغفر له، ويسكنه فسيح جناته، ويلهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان، وأن يعوضنا عن فقده خيراً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.