في عالمي أَلفُ طريقٍ لليأس، وأَلفُ بابٍ مغلق، وكثيرٌ من الحزن، وسنواتٌ من الغُربة، ولا يجد قلبي منافذ نورٍ في هذا العالم الشَّقِي. تجذبني لحظاتٌ حلوة، أتمناها وأرغب بها لكنها لا ترغب بي، أَن تُجالِس صديقاً يفهمك ويشعر بك، يَجذبني الأملُ في عيون أحدهم، لكنه لا يصل إليّ، يجذبني الصبر لكنني أسرع الناسِ شكوى، وأكثر ما يجذبني حقاً هو الإيمانُ الراسخ.
إنني أعاني كثيراً، أتخَبط في منعطفاتِ الحياة، وعندما أشعر ببعضِ الاستقرار راضياً، تعطيني الحياة اختباراً يَعصف بأركاني ويُعِيد آلامي، ويُزلزِل إيماني الذي أحاول ترميمه بعد كل اختبار.
لِمَ أرسب دائماً في الاختبار؟ كنت أُعِد نفسي بما استطعت، وفي أحيانٍ كنت أتوقع الامتحان الذي سأقبل عليه، وأظنُ نفسي قوياً بما يكفي للاجتياز، لكن دائماً أجد الأمر أصعب مما توقعت، ولا أستطيع الصبر كما تخيّلت.
إنني أَسرِي كل ليلةٍ في فضاءِ أفكاري، وأرى طُرقاً كثيرة؛ أَحَار بينها ولا أسير فيها، وأسأل: كيف يَعرُج المؤمنُ إلى ربه؟ كيف يَعبده كأنه يراه؟ وكيف يرتقي بروحه في ملكوت السماوات؟ كيف يأتي ربه بقلبٍ سليم؟!
وبينما أسير جاءني الصبر على هيئة رجلٍ وَضاء الوَجه شديد الجَمال، متوشح بالأسود، يقول لي: يا بُني إنَّ الطريق يبدأ من هنا؛ قد يبدو اجتيازه صعباً لكن الله مع الصابرين، فرأيت رسول الله ﷺ وصبره على الأذى عندما ذهب إلى الطائف طالباً النصرة، حين طردوه من بلادهم وسبوه ورموه بالحجارة حتى سالت الدماء من قدمه الشريفة، وتذكرت صبره على فراق أحبته، زوجته وعمه، كم صبرت يا رسول الله!
وأكملت المسير؛ فلاقيت الأمل على هيئة رجل باسمٍ، مُشرق الوجه، يكسوه البياض، يقول لي: يا بُني إنَّ الأمل مداده من الله فقط، وليس من واقع الحياة، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فتراءى لي سيدنا جبريل وهو يقول لرسول الله في أهل الطائف: إن شئت يا محمد أن أطبق عليهم الأخشبين، فيقول له سيدنا محمد؛ "أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً"، أي أملٍ حمله قلبك يا رسول الله فيمن آذوكَ!
ثم وجدت مجلساً لرجالٍ صالحين، يتسامرون ويتناقشون، فأقبلتُ عليهم متوجساً، فقالوا لي نحن الصالحون من كل زمان، تجمعنا رابطة أبدية، تأتي الأُمَمُ وتتعاقب، لكن الأحياء منا والأموات مترابطون، ومن أراد الطريق يجب أن يستذكرنا كلَ حينٍ.. ألا تُسلِّم علينا؟! فقلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.. فتذكرت رسول الله عندما عرج في السماوات ولاقى أنبياء الله، إخوانه السائرين على نفس طريقه، الذين أوذوا وصبروا، الذين عانوا مثل ما يعاني، يَشدون من أزره ويُطمئنون قلبه الحزين.
وانطلقت أسير، فرأيت الصلاة على هيئة رجل فتيّ قوي، تعلو هامته التقوى، وأقبلت عليه، فقال لي: يا بُني إن الصلاة هي معراج العبد لربه، يرقى بها إلى السماء كل حين، فَيُغسَل همّه، وتتطهر نفسه، ويلقى ربه ومولاه، فتذكرت رسول الله عندما فُرضَت عليه الصلاة من فوق السماء السابعة، لأن إقامتها هي ارتقاء للسماء دون الأرض.
ثم وجدت رجلاً تَـلُفُه الحِكمَة، ويَغزوه الجمال والكمال، فهرعت إليه وسألته: يا معلمي إنني أشعر بنقصٍ في إيماني وظلمٍ في زماني، ولو كنت عاشرت النبي في زمانه ورأيت صبره وأمله، وسمعت حديثه يوم أُسرِي به وأعرج؛ لكان إيماني راسخاً وصبري متجذراً، فقال لي بصوتٍ رخيم: أنا دليلك في هذا الطريق، يا بُني أنا القرآن، أقص عليكَ من القصص ما أثبت به فؤادك، وأروي لك عواقب الأمم وميلاد الرسالات، وأعرِّفكَ على ربك، وعلى الكون من حولك، وعلى نفسك التي بين جنبيك، أنا الدليل وليس لي بديل.
أنا الذي أربطك بالصالحين في الأزمان الفائتة والقادمة؛ لتأنس بمن يُشبهك، وتطمَئِنَّ من مخاوفك، أنا مفتاح الصبر وبابُ الأمل، ورفيق الصلاة ولسانها، أنا الصديق الحاني والناصح الأمين، أنا القرآن الكريم.. ثم اختفى الرجل واختفى كل الرجال، ووجدت بين أحضان كَفَيَّ مصحفي، فقبضت عليه مستمسكاً، وحملت ذكرى الإسراء والمعراج بين الحنايا متأثراً، وانطلقت في طريقي أسير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.