كما تنزلق الرمال عن جلد الأفاعي، ينزلق الناس حولك كلما كنت كثير التذمر والشكوى، ليس لأنك كالأفعى، وإنما يصير كلامك بالنسبة لهم سماً إن طغت عليه السلبية وعيش دور الضحية، لكل واحد منا همومه التي تثقل صدره، فترى الواحد منا يضحك وكأنه لا يعرف معنى الحزن، ولا حتى الألم، أو الضياع، وتراك بالمقابل، تلج الأماكن، لتشتكي، وأينما وليت وجهك سبقت الآلام والأحزان، فكأن خزانك ونصيبك من الظلم هو الأكبر، ولا تدري، كيف أن كثيراً من الناس يقاسون أضعاف ما تقاسيه دون أن ينبسوا ببنت شفة، ولا يصرحون بغير الحمد.
يوماً ما، متأخراً ربما، ستعرف بأنك سائق أيامك، وستلوم نفسك على كثرة الكلام الذي كان تخفيفاً لا فائدة منه، لا أحد يملك يداً في حياتك، ولا أحد يعرف الظروف التي تمر منها، فلكل واحد منا زاوية نظر يرى منها، وحتى الشعور، فأكثر الذين يشعرون بنا هم في الأغلب أشخاص كانت لهم تجربة مع نفس الحالة، وما دونه، فيكون شعوراً تقريبياً، أو محاولةً في الشعور. لا أحد في الدنيا، قد يصرح بكل شيء عن حياته، مهما بدا صادقاً، سيخفي بعضاً من عقده وإن لمح لها، سيخفي آثار أحداث مازال لا يقوى بعد عن إماطة اللثام عنها، سيخفي الأجزاء الحساسة، لن يخبرك بكل شيء، ولن تعرف أبداً دوافعه، والأسباب التي كانت وراء أفعاله.
قبل أيام قليلة، بدأت قراءة رواية "الجريمة والعقاب"، بعد أن أنهيت رواية "المقامر" طمعاً في التعرف على أدب دوستويفسكي، وكم اندهشت، دهشةً بلغ أثرها في أن فتحت عينيّ على وسعهما، وأعدت قراءة بعض الفقرات لأكثر من أربع مرات، وتخيلته في كل مرة، بنباهته الخطيرة، يقول لي: "لا تعرفين بعد شيئاً عن لعبة الحياة، ولا حتى عن الدوافع"، لا أعرف لماذا اقترن في ذهني أنه شخص يستأصل الدوافع من جذور الأفعال الجافة التي يمكن لأي شخص عادي أن يتعاطف معها، أو يمر عليها مرور الكرام، في السابق، كنت أجد أن القراءة له تثقل قلبي، واليوم، أستوضح السبب؛ فذلك -كان- لأنني لا أملك طاقةً كافية لاستيعاب تغير الأشخاص، وفضح الخيوط التي تحرك الدمى على المسرح، فكل خيط كان مسؤولاً عن فعل، وكل فعل كان نتيجةً لأسباب، هكذا تقتضي الأفعال، وبهذا ينتج الفعل؛ نحن عبارة عن تراكمات.
أعترف أن تعلمي للأشياء بقدر ما كان بطيئاً هذه الأيام، وصعباً؛ بقدر ما وجدته عميقاً، ليس عمق البحار أو المحيطات، وإنما عمق يحاسب المرء فيه نفسه، ويبحث فيه عما يجب أن يستمر به، أو دونه، فالحياة قد تسلب في رمشة عين، وبعض المنغصات توقف تدفق الاستمتاع؛ ومن أهم الأشياء التي توصلت إليها انطلاقاً من تجربتي الخاصة، التي لا تعني بالضرورة تطابقها مع كل التجارب، فنحن لوحات مختلفة، ولكل لوحة ألوانها/تجاربها/تراكماتها التي تميزها.
التوقف عن التذمر والشكوى
الناس في حياتنا طبقات، وإن كان ولابد لأي واحد منا أن يفضي بمكنون قلبه، فلابد أن يختار أقرب الناس إليه، ويكون صريحاً مع أسرته القريبة بخصوص ما يقلقه، أو يمر منه. فحينما نتحدث عن متاعب والآلام الشخصية للأشخاص الأقل من 21 سنة أو أكثر بقليل، فكل هذه مشاكل تخص الأسرة بأكملها، بالأب، والأم، فهؤلاء هم أول من يجب أن نلجأ لهم، لأن بعض الأفكار العادية أو الشكاوى الصغيرة التي لا يستطيع الولد أو البنت التعامل معها لصغر سنهما، ستكون سهلةً على الآباء، وغير معقدة مطلقاً، لهذا من الأفضل أن تتم مصارحة الأسرة في هذا العمر. لكن، حينما يصير الإنسان مسؤولاً، وبالغاً، وأكبر بقليل، فإن والديه يجب أن يعرفا الأحداث المهمة، لا الأحداث التي قد تنغص راحتهما، لذلك من الأفضل إبعاد الأسرة عن مشاكل العمل، وغيرها، أو إن كان الإنسان لا يصارح سوى أهله، فمن الأفضل التحدث عنها بطريقة لا تثير القلق والرعب، ولا تفضح الخوف.
في الحقيقة، لا أحد سيملك حلاً لمشاكلك، من الأفضل أن تستغل أوقاتك مع الآخرين في التحدث عن أشياء، لا بؤس فيها، أو بائسة بطريقة معتدلة، كأن تتحدث وتشكو مقداراً من الوقت، وتمنح الآخر أذنك لتسمع شكواه مقداراً من الوقت، وليس أن تشتكي في كل فرصة، وكلمة تحظى بها، أو تجري على لسانك.
التسليم بما يوجد، وبالظروف الحالية كيفما كانت
كيفما كانت حياتك، فإنني أؤمن بأن "من اختار الرضا، يهون عليه العبور"، البقاء في مستنقع الضحايا، سيجعلك تتعفن، وحده الجدف هو ما سيساعدك على تغيير موقعك، أو حياتك. فكل الذين قضوا عمرهم في الشكوى، مهما مرت عليهم السنوات سيبقون على حالهم، وحدهم الذين تحركوا بدل أن يتكلموا استطاعوا تغيير الوضع. حيما أسلم بأمر ما، فإنني أمتص ما له من قدرة عليّ، ويصير مقبولاً، لا حبلاً يجرني وأتكئ عليه في كل حديث مع النفس أو مع الغير، إنك تستنزف نفسك، وتدمرها بيدك. كل الذي حصل في الماضي، مضى، وأنت مسؤول عن متابعة تبعاته والتخلص والتحرر منها، وهذا لا يحدث سوى بالتصالح معها، الحياة تمضي للأمام، فما لنا نحب عيش الأمس في اليوم، وعيش اليوم في الغد؟
الابتعاد عن الأشخاص السلبيين والسامين والنرجسيين والأنانيين
لا يمكن إنكار أن للناس تأثيراً فينا، فالفرح كالحزن، سريع العدوى، إن كنت محاطاً بأشخاص ممتلئين بالأمل، والتفاؤل، ستكون واحداً منهم، وإن كنت محاطاً بالأشخاص المرهقين من الحياة، كثيري السخط، فلن تخرج عن جماعتهم، يوماً بعد يوم، ستنطفئ وستصير مثلهم. إن أكثر ما وجدتني محاطةً به، ولعلي وجدته يؤثر بي، كان هو الناس. وكأنني دلو للتقيؤ، يرمى بعيداً كلما انتهت حاجتهم إليه، لقد نفضت عني كل شخص من هذا النوع، كل الذين كانوا يأتون إليَّ لتفريغ طاقتهم السلبية والمغادرة بعدها وعدم مقاسمتي ولو جزءاً صغيراً من ذلك الفرح الذي يعيشونه، رميتهم نحو البعيد، ووجدت في هذا راحتي، بقدر ما عز عليَّ إنهاء الصداقات، ورسم الحدود.
من المفيد أن يستطيع الإنسان أن يضع حدوداً لعلاقاته مع الناس، فإن الناس لا تعدل، وتتمادى إن فتح لها الباب، ووضع الحدود سهل للغاية، يتطلب فقط عدم ترك فجوات للآخرين كي يعبروا منها، تختار فئةً محددة، أشخاصاً نظيفين، لا حقد فيهم، وتغلق الباب على غيرهم، فالحياة أقصر من أن تدخل الناس واحداً بآخر، وتنجرح بعدها من هذا وذاك، وتتألم لهذا وذاك، من العسير أن أعترف بأن بعض الذين ستدخلهم، سيكون الأذى نابعاً منهم، لكن لا عليك، فالحياة تمضي، وما تعلمته اليوم، سيساعدك في الغد، فلا تتحسر وتبكي الأطلال.
مهما بلغت حد الالتصاق بالآخرين، فصدقني، ستظل معادلةً من الدرجة الثانية بالنسبة لهم، مثلما تراهم معادلة من الدرجة الثانية، فالدرجة الأولى تكون ذاتيةً، وبقدر ما قد أقاسي، وتقاسي. فقد نجتمع نشكو الهموم، وحينما نتفرق قد أفكر فيك، وتفكر في، لكن كلانا منشغل بنفسه، ولا أحد يهتم بأمرك، فلماذا ستعري جراحك، وأحزانك، وتصير عرضةً للتقيح في كل فرصة؟
العمر قصير، فإن وجدت في محيطك شخصاً أنانياً، أو نرجسياً، أو ساماً، فضع الحدود بينكما، ولا تتعمق في صداقته أو التعرف عليه، وأقرئه السلام إن جمعتك به الحياة، لكن، حذار من الاقتراب منه، والتعامل معه، والله أنه سيلتهم عافيتك، وسيقتص من روحك بلا ذنب، وستصير أسيراً للألم، والقيد. فلا تتورط معه، واختر نفسك، وعافيتك.
لقد عرفت، مؤخراً، أن من المهم أن نفرق في الناس بين من يحبك لأنك أنت، وبين من يحبك لمصلحة يجدها فيك، فهذا الأخير ليس سوى دودة، مهووسة بالأكل، ولا يعنيها غيره؛ كي تكبر. فالالتهام شرط بقائها الوحيد، فلا تكن طعماً لها، ولا تخجل من قول: لا.
بعد العديد من البوح الذي يكون في غير موضعه، والعديد من الحماقات والكلمات، وكثير من السذاجة، ستفيق على حقيقة أن مستقبلك، بناء حاضرك، وأنك الوحيد الذي يستطيع أن يتخذ خطوةً، ويصبر، ويتقدم، أو يختار مكاناً قصياً، ويبكي يومه وأمسه ومستقبله، هما خياران، لا ثالث لهما. حينما ينفخ الطاووس ريشه، فإنه يصيب به من حوله، فلا تكن ذا أثر سلبي على الناس، ولا تفقد الآخرين ثقتهم بأنفسهم، أو أملاً بغد مشرق، قل خيراً أو اصمت، الحياة ليست كابوساً، وأحياناً تكون سخيةً مع من اتخذ بالأسباب، فلا تجعل تجربتك مقياساً ومعياراً للحكم على مصير الآخرين. غير الشكوى بالفعل، والتذمر بالحزم والسعي، وأخبرني: ألا تعتقد أن عليك التوقف عن التذمر والشكوى؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.