هل يمكن أن تكون كل استجابات الحكومات والأفراد تجاه كورونا دليلاً جديداً على أنه ليس لدينا جديد وأننا نعيد إنتاج ما نعرفه وما تعودنا عليه؟ بالتأكيد كانت استجابات الدول مختلفة من بلد إلى آخر، لكنها كانت في مجملها تسير كلها في نفس المسار ونحو نفس الأهداف ودون تغيرات جذرية أو حادة. لماذا؟ هل ماتت الأفكار؟ لماذا لا توجد أي أفكار أو سياسات بديلة؟
قبل أن تبدأ بالهجوم واتهامي بأنني مخطئ، دعني أوضح لك ما أعنيه بالتشابه في الأفكار والسياسات. يجب الإقرار منذ البداية بأنه كانت هناك اختلافات في استجابات الحكومات المختلفة تجاه أزمة كورونا. شخصياً كتبت ورقة بحثية تحاول أن تبين أسباب اختلاف استجابات حكومات مصر وتركيا والمملكة العربية السعودية تجاه أزمة كورونا على الرغم من أنهم جميعاً في نفس المنطقة الجغرافية. لكن على الرغم من هذه الاختلافات بين الدول، لكنها في معظمها كانت تسير في نفس المسار أو تتبنى نفس الأفكار والسياسات، والاختلافات هي فقط في القدرة على التنفيذ أو في مدى الاختيارات التي سيتم تطبيقها فعلياً.
منذ اليوم الأول، كانت الاستجابات متولدة مما نعرفه بالفعل من التجارب السابقة في وباء سارس أو الإيبولا. وباء كورونا هو تهديد حقيقي وواقعي. هذه هي نقطة الانطلاق الأولى. الوباء ليس خديعة من الأمريكان، ولا مؤامرة من أجهزة غامضة لا نعرفها. وبغض النظر عن السبب في وجوده أو كيف بدأ، فهو في النهاية يمثل تهديداً لصحة الناس وحياتهم. هناك من أنكر وجود هذا الوباء أو تعامل معه باعتباره نظرية مؤامرة، لكن هؤلاء ظلوا في النهاية موضع سخرية من أغلب القطاعات ولم يتم التعامل معهم بجدية، خاصة عندما بدأت أعداد الوفيات بالتصاعد في كل دول العالم لتصيب أقرب الناس لنا. هذا عن حقيقة الوباء. فكيف تعاملنا معه؟
تحول التعامل مع الوباء إلى مجموعة من الأهداف التي يسعى الجميع لتحقيقها. يجب التقليل من أعداد المصابين، وهذا سيتم من خلال متابعة أعدادهم بشكل منتظم وإجراء الفحوصات لأكبر عدد ممكن للوصول إلى معلومات دقيقة. ينبغي العمل أيضاً على إيجاد لقاح ضد هذا الوباء، وهذا سيحدث من خلال دعم السباق المحموم بين الشركات الدوائية الكبرى لتسريع الوصول إلى اللقاحات.
هناك عدد من الإجراءات العامة التي ينبغي العمل على تنفيذها من أجل التقليل من سرعة انتشار هذا الوباء ومن الأعراض الجانبية التي يمكن أن تحدث بسببه، وهذا سيكون دور أجهزة الإعلام والتوعية العامة والصحية.
الأهداف إذاً كانت واضحة بشكل كبير. لكن الاختلاف من دولة إلى أخرى سيرتبط بالقدرات المتوفرة لدى هذه الدول على تحقيق هذه الأهداف. وفي حال توفر القدرة، سيكون الاختلاف في توقيت تنفيذ هذه الإجراءات، والمزيج الذي سينتج من الاختيارات المختلفة. أما بالنسبة لتقييم أداء الدول، فإنه سيكون بناءً على نجاحها في تحقيق هذه الأهداف.
هل يبدو لك هذا النموذج سيئاً؟
توقعي، أن الإجابة ستكون لا. هذا نموذج جيد ولا توجد فيه مشكلة ولا نعلم سبباً لشكواك منه.
لو كانت إجابتك كذلك، فهذا دليل آخر على أن الأفكار ماتت ولم يعد لدينا بدائل للأسف!
دعني أقل لك كيف كان يمكن أن تكون الاستجابة لوباء كورونا مختلفة لو كانت لدينا أفكار أو سياسات بديلة.
لو كانت لدينا أفكار أو سياسات بديلة للتعامل مع الأوبئة العالمية مثلاً أو من أجل تطوير استجابة أنظمتنا الصحية لمواجهة الأزمات الشبيهة فإن هذا سيؤدي إلى اختلافين رئيسيين في طريقة تعاملنا مع الأزمة الحالية.
الاختلاف الأول أن استجابتنا لن تكون رد فعل بل ستكون هي الفعل ذاته. أي أننا لن ننتظر حتى تحدث الكارثة لنبدأ في الاستجابة ضدها بالسياسات والأفكار التي نعرفها، بل كنا سنعمل حتى من قبل أن تحدث الكارثة على تبني أفكار وسياسات بديلة، والبدء في تنفيذها. الانتقال من خانة رد الفعل إلى خانة الفعل هو الفرق الجوهري الأول.
أما الاختلاف الثاني فهو أن تركيزنا سينتقل من التركيز على الأهداف التي نسعى لتحقيقها إلى التركيز بدلاً من ذلك على السياسات والإجراءات التي ينبغي علينا تطبيقها. هناك علاقة بالتأكيد بين الأهداف والوسائل. لكن إذا كان الهدف هو إيجاد نظام بديل وفعال له صفة الاستدامة وليس مجرد رد فعل على هذه الأزمة، فإن التركيز سيكون على بناء إجراءات وآليات جديدة والتأكد من أنها تعمل بشكل جيد. وبذلك فإن بناء آليات وقواعد جديدة هو الفرق الجوهري الثاني.
الفرق بين النموذج الأول الذي تستخدمه أغلب دول العالم الآن والذي يمكن أن نطلق عليه "النموذج التجريبي"، وبين النموذج الثاني الذي يملك أفكاراً وسياسات بديلة ويمكن أن نطلق عليه "النموذج الخطابي" يوضح الفرق بين من يعمل وفق ما يعرف والأفكار التي يملك، وبين الذي لديه أفكار وسياسات جديدة يسعى لتحقيقها. وهذا لا يقتصر فقط على أزمة كورونا.
البلدان العربية التي شهدت انتفاضات شعبية منذ عام 2011 في حاجة إلى نموذج خطابي يمتلك أفكاراً وسياسات بديلة، يبشر بها ويسعى لإقناع الناس بها. قد ينتظر لحظة مناسبة للبدء في تنفيذ هذه السياسات أو أنه في الأغلب سيعمل على خلق هذه اللحظة عبر تبني خطابات تدعو إلى التغيير. وعندما تحين لحظة التغيير، فإن تركيزه الأهم سيكون على بناء آليات عمل وقواعد ومؤسسات يمكن أن تسهم في تحقيق هذه السياسات الجديدة. أما إذا كانت استجابتنا هي ردات فعل مكررة، تنتهي نهايات مأساوية كما حدث مع الربيع العربي، فهو دليل إضافي على أننا لا نمتلك الأفكار الحية اللازمة لإنجاح عملية التغيير.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.