العلم تطوّر، والتكنولوجيا تقدّمت، ومعظم الأشياء تغيّرت، بل كل شيء قابل للتحسين والتغيير، وهذا التغير والتطوّر لم يأت من مكان واحد ولا من عقيدة واحدة، كلنا نعلم أن مجتمعاتنا الإسلامية في عصورٍ ما قد قدمت ما لا يستهان به للعالم، ونحن الآن نرى أكبر الجامعات وأكثرها عراقة تكمن في الغرب، وهناك تقام الكثير من البحوث والدراسات في كافة جوانب الحياة، وكلنا نحفظ المقولة الشهيرة: اطلبوا العلم ولو في الصين.
فما بالي الآن أرى أقواماً يرفضون ذلك فيما يخص المواضيع الإنسانية والاجتماعية، أجد نساء يرفضن رفضاً قاطعاً ما توصل له العلم من توجيهات في رعاية الأبناء، يرفضن العلم والطب، تلوم إحداهنّ الأخرى لعدم إعطاء ابنها الماء منذ ولادته، فتحاججها الأخرى بأنّ الطب يقول ذلك، العلم يقول ذلك، ومنظمة الصحة العالمية، فتستهزئ بها الأخرى، لأنّها تصدّق ذلك، وترى أنّه كذب ودجل، هكذا رفضاً واعتراضاً دون علم دون نقاش وأدلة، دون حتى محاولة فهم، ترمي بكل ما توصّل إليه العلم عرض الحائط.
ألسنا نحن الذين نعتز بالإسلام، ونكره ما حدث من قبل الكفّار الذين قالوا عن الدين (أساطير الأولين)؟ ألسنا نحن الآن نتبع أساطير الأولين فيما يخص التنمية والعلم. ونظن أنّ ما لدينا كاف واف؟ وكأننا نملك العلم كاملاً بحذافيره، وكأن الإسلام قد أمرنا بأخذ ما هو موجود ورفض كل ما يأتي من الفئات الأخرى، دون دليل ودون أن تكون لنا القدرات الكافية التي تجعلنا نتوصل إلى أفضل مما توصلوا إليه.
وجدتُ إحداهنّ غاضبة ذات يوم من جارتها، التي قالت لها معلومة أخذتها من الإنترنت، غضبت منها لأنّها تأخذ معلوماتها من الإنترنت، ثمّ ما لبثت أن تهجّمت على شبكة الإنترنت وكل ما يوجد بها من معلومات. صحيح أنّ هناك الكثير من الشائعات والأكاذيب التي تنشر عبر شبكة الإنترنت، خاصة مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هناك أيضاً معلومات مفيدة وصحيحة، هناك مئات الكتب الإلكترونية والمقالات والمواقع التي تقام على العلم والحقيقة وليس على الخرافة.
بالطبع ليس كل ما تنشره تلك المواقع والكتب صحيح مئة في المئة، فكل كلام البشر يؤخذ ويترك منه، لكن تركه كله بالمجمل انجرار وراء الجهل، وتخليف للكثير من الأمور التي من شأنها أن تزيد فهمنا للأشياء من حولنا بل وفهمنا لذواتنا، واتخاذ القرارات الصحيحة، فالكثير من العلماء على مر العصور قد بحثوا في أشياء مختلفة لو علمنا بها واستفدنا منها لارتقينا قليلاً وأتقنّا التعامل مع أمورنا اليومية التي نتخبّط فيها، والتي نتصرف فيها بطريقة خاطئة تنهكنا جسدياً ونفسياً وتأخد من وقتنا.
تلك الجوانب التي بحثوا شملت الطب والتكنولوجيا والتربية والإدارة والتواصل مع الآخرين، وفهم النفس البشرية وما يفعله جهازنا العصبي بنا، أشياء من السخافة ألا نسعى إلى تحسين أنفسنا فيها، بل نتكبّر وندّعي أنه لا يجب أن نصدق كلام الغرب ولا أن نصدق ما ينشر على الإنترنت. فتضيع الفرص من بين أيدينا ونستمر بالغرق في مستنقع الجهل، الذي نأبى الخروج منه، والذي لا يزيدنا بقاؤنا فيه سوى شقاء وتعاسة وفقر، فنكون أفراد هشّين، لا قدرة لنا على النهوض بمجتمعاتنا فضلاً عن أنفسنا، ويصبح من السهل على من أراد ظُلمنا أن يظلمنا. نترك الرقي والتقدّم ونقل الحياة إلى مستوى أفضل فيصبح استعبادنا أسهل.
وحتى في مواضيع ديننا، في كثير من الأحيان نكتفي بالفتاوى التي نسمعها من صديق أو قريب لا يعرف شيئاً عن الدين، أو من رؤية ما يفعله الآخرون كأن ما يفعله الآخرون هو التشريع الذي وُضِعَ لنا.
وكأننا لسنا مكتفين بما نعانيه من فقر وظلم واستبداد، فنسمح لكبريائنا أن يصدنا عن تطوير أنفسنا والبحث عن الحكمة ناسين أنها ضالتنا، بل بدلاً من كل ذلك نضيع أوقاتنا في الترهات والأشياء غير المفيدة، بل نعود لاستخدام ذلك الإنترنت الذي نكذّب ما ينشره إلينا عبر المصادر الموثوقة، لنتبع الشائعات التي به، فما أُن يُنشر خبر على الواتساب عن حدثٍ ما حتى نشرع في تمريره دون أن نتأكد من صحته وهو قد نشر عبر مصدر غير موثوق.
أصبحنا نصدق الكذب ونكذّب الصدق، كما نتجه أيضاً للأشياء المادية ونهتم بها التي تنشر عبر انستغرام، معطين لها الأهمية والأولوية، متابعين مشاهير الفن الهابط، الفن الذي هو بريء من الفن، الفن الذي لا يمثل ديننا ولا عاداتنا ولا هويتنا، الفن الذي لن يرتقي بنا ولن يضيف شيئاً مفيداً إلى حياتنا ونجعل من كل من ينشر السخافات نموذجاً نحتفي به ونغبطه ونتمنى أن نكون مثله، وكأننا قد انتهينا من تصليح أمورنا الأكثر أهمية ولم يبق لدينا سوى الاهتمامات بالسخافات.
دعونا، نعُد إلى رشدنا، وإلى كوننا الأمة التي تقود الأمم.
لن يحدث ذلك خلال يوم أو شهر، بل، دعونا نعد لنكون أقوياء، أقوياء بالدين بالعلم والأخلاق، فلا يُستهان بنا ولا نُستعبد. وليحدث ذلك لابد أن يبدأ كل فرد فينا بنفسه، ليعيد النظر إلى حياته، فيراقب أفكاره وأفعاله وما وصل إليه، وفيما قضى عمره، وفيما يقضي وقته، ثم يبدأ خطوة خطوة بالتغيير، ولو كانت تلك الخطوات كخطوات السلحفاة، لكن المهم أن يبدأ، أن يبحث عن كل ما من شأنه أن ينميه ويجعل منه شخصاً أفضل، أن يمشي مع صحبة صالحة، أن يترك كل ما يسرق وقته دون أن يعود عليه أو على مجتمعه بفائدة، أن يتوقف عن أن يكون غثاء كغثاء السيل، فالغثاء الذي نمتلكه كاف، وليكن شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
نحن حملة رسالة محمد أولى بنهضة الأمم، نحن الذين نحمل العقيدة الصحيحة، التي تحمل خير منهج للبشرية، ونحمل مبادئ لا نراها في الغرب المتقدم، من خوف لله ومراقبته، وتركيز على الأسرة وبنائها بالشكل الصحيح، ونبذ للعري والانفلات الأخلاقي. نحن الذين يجب أن نقود هذا العالم، بالدين والعلم والعقل.
نحن بحاجة إلى العلم حاجة ماسة، وإن كنّا لا نستطيع الوصول إليه عبر الأشياء التي تحمل أكبر كم من العلم ومصداقيته مثل الجامعات العريقة، إلا أننا مازال بإمكاننا استخدام المواقع والكتب الإلكترونية ومشاهدة قنوات اليوتيوب بعد أن نتأكد من مصادرها، ونترك شائعات الواتساب، وسخافات الإنستغرام، وتفاهات التيك توك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.