في الإسراء والمعراج.. رحلةٌ مع النبي

عربي بوست
تم النشر: 2021/03/11 الساعة 13:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/11 الساعة 13:51 بتوقيت غرينتش
الأمطار تغرق شوارع مكة المكرمة/تويتر

هذا محمد، ذاك الرجل الذي على مشارف الخمسينيات من عمره، شديد البأس، لكنْ في قلبه وجع محموم، باسِم الوجه لكنْ في صدره شيء متعَب، عائدٌ من الطائف لكن سقط منه شيء هناك ولم يعد، هذه قدمه مجروحة من حجارة الصبية، وهذه أذنه مجروحة من سُباب الكبار، وهذه عينه مرهقة من السهر، وهذه يده ممدودة إلى السماء، وهذا نظره معلق بالأعلى، وهذا هو مستريحٌ ظهرُه مشغول فكرُه، في بيت أم هانئ.

هذا محمد، ذلك الرجل المتعَب، في عمر أبيك إن كنت شابّاً، وفي عمرِك إن كنتَ أباً لشاب، وفي عمر أخيك الأكبر ربما، بين سواد الشعر وابيضاضه، وخفة اللحية وثقلها، وتعب النفْس وتهدج الأنفاس، من عشر سنوات أو يزيد وهو يُسِرّ في قلبه أمراً، يُعلن الأمر فلا يلقى ما يَسرّه، سريعٌ خطوُه رغم ثقل روحه، وعاليةٌ همته رغم ارتفاع همه، متعَب لم يهنأ ليلة ولم يسترْخِ يوماً، منحني الظهر من الحمل، ومصفر الملامح من الوجع.

ها نحن معه في داره، نراه راقداً على ظهره، يريد الله أن يخفف عنه، أن يسرّي عن روحه ويسلي قلبه، أن يعزيه وقد فقد من كانوا له عزاءً، بعد عام حُزنٍ تُوفي فيه عمه أبو طالب، ذلك الرجل الأصيل الكريم، الذي آواه وإن لم يؤمن بما بين يديه، لكنه كان كريماً بالقدر الكافي ليحمي ظهره، وماتت خديجة، حبيبتُه وزوجُه وناصرته، وشريكة عمره الفائت، وها هو بلا ظهرٍ في عيون الناس، ومحمد هو مَن هو، لا يدخل البيت الحرام إلا في حماية المُطعِم بن عدي، رسول الله لا يستطيع صلاة ركعتين لله في بيت الله إلا مستجيراً بمشرك، محمدٌ وهو مَن هو بلا أحد إلى هذا الحد.

يريد الله أن يخفف عنه، أن يقول له تعالَ في رحلةٍ لا تشقى فيها من الترحال، وفي مسيرةٍ لا تُدمى فيها قدمك، ولا تشج رأس غلامك، إلى قومٍ لا يجرون خلفك بالحجارة ويؤذونك بالألسنة والأيدي، بجولةٍ لا تلقى فيها رَهَقاً ولا نَصَباً، ولا يطردك فيها أهل الأرض من الأرض التي تدعو فيها إلى اتّباع باسِطها، في ليلةٍ لن تبكي فيها يا محمد وحدك، ولن تدعو فيها إلهك من مكانٍ وهو في مكانٍ، ولن تشتاق فيها إلى خديجة وأنت يأكلك الحزن، ولن تتذكر فيها أبا طالب وأنت تراجع ذكرياتك معه، لأنك ستكون بالأعلى عند خالق كل هؤلاء ومالكهم.

لن يسير الرجل على قدميه، ولن يقطع الصحراء في شهرين على دابته، وإنما مواصلةٌ مختلفةٌ من عند الله، يقودها جبريل، لها القدرة على أن تقطع ما بين الحجاز والشام في لمح البصر، وأن تسافر من بيت الله الحرام إلى بيت المقدِس في وقتٍ خاطف، مريحة لا تحتاج إلى شقاء في رعايتها، ولا خوف من موتها في منتصف الطريق.

يصل محمدٌ ونحن معه، كلنا في طيفٍ لا نراه على البراق لكنه موجود، يصل إلى هناك، ليس إلى مدينةٍ مجاورة، ولا جولةٍ قصيرة، وإنما إلى المسجد الأقصى، هذه رحلة تستحقها يا رجل، هذه كرامةٌ أنت أهلها، هذه معجزةٌ خاصة بك، رحلة تنسيك الدنيا يا محمد، ليس من باب المبالغة ولا المجاز، وإنما حقيقةً ستنسيك الدنيا، لأنك ستذهب الليلة في رحلةٍ إلى ديار الآخرة وتعود، ستنسى الدنيا لأنك في مقام العُلا، ستنسى الأرض لأنك يا حبيبي في حضرة السماء.

من طُهر إلى طهر، ومن قدسيّ إلى قدسيّ، ومن بيت الله إلى بيت الله، ومن مكانٍ تحبه إلى مكانٍ يحبك، وصلنا إلى بيت المقدس، وقد أسرينا مع رسول الله، في ليلٍ ليس كأي ليل، وليلة لا تشبهها ليلة، هذه رحلة، يقودها جبريل، ويصحبنا فيها الله، وبيننا نبيه محمد.

نستعد للفقرة الثانية من الرحلة، لنصعد إلى السماوات العُلا، وكيف نصعد يا سيدي؟ وكيف نصل؟ لا يهم، المهم أننا في السماء الأولى، والثانية، وما فوقهما، نلتقي كل سماء بالأنبياء، نرى آدم مع محمد، ونراه مع يحيى وعيسى، ونراه مع يوسف، تخيل جمال أهل الأرض كله مع نصف جمال أهل الأرض، تخيل جمالات الناس مجموعة مرةً ونصف؟ نراه مع إدريس وهارون، نراه مع موسى كليم الله، ونرى موسى -كما توقعنا- يبكي، ذلك النبي رقيق القلب ليّن الروح، يبكي بحضرة محمد، "الغلام" الذي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمة موسى ونصل السابعة، هذا إبراهيم، ذلك الجد الحبيب المرحب بالابن الحبيب.

ثم دخل محمد الجنة! تخيله قبل تلك الرحلة، وتخيله بعدها، إن كان شوقه لها أولاً يفعل به ما يفعل، فكيف شوقه إليه بعد ذلك وقد رآها، كيف يكون صدره وقلبه وروحه وهو عائدٌ منها، وإن كان آدم هبط من الجنة لعصيانه أمراً لله، فإن محمداً الآن يصعد إليها لعصمته من أي خطأ أو عصيان، هنا باختصار تعرف ما بين السماء الأولى والسماء السابعة، قصة أفضلية محمد، أصغر كل هؤلاء وآخرهم، الذي هو بعدهم بعقود وقرون وأزمنة وأجيال.

ها نحن ذا فوق الجنة، قاب قوسين أو أدنى من ذي الجلالة، من الإله، نحن في حضرة الله يا رجل! نحن في لقاءٍ يجمع بين الرسول والمرسِل، بين المخلوق والخالق، بين النبي ورب النبي ورب كل نبي ورب كل الذين بُعث إليهم كل الأنبياء! تتخيل اللقاء؟ لا تتخيله، أنت الآن بالفعل فيه، أنت مع النبي يحملك في صدره إلى الأعلى، ويأخذك معه إلى كل سماء، إلى كل نبي ورسول، إلى الله جل جلاله وتقدس اسمه.

نزلنا وعدنا، وسيهاجر الرجل بعد شهور، وقلبه معلقٌ بتلك الليلة، وأي ثمنٍ هينٌّ بعد ذلك، أي ثمنٍ رخيص للغاية، تخيل نفسك عائداً من الجنة، تخيل أنك نزلت منها للتو على وعدٍ بالعودة، أنك رحت وسترجع، أنك بالفعل رأيت نعيمها، أنك عند سدرة المنتهى، ولا شيء بعد ذلك إلا الله، ثم نزلت بين كل هؤلاء، من يصدق هذا؟ بل من لا يصدق هذا؟ إنه عزاءٌ خاص، وتسلية إلهية، كثيرةٌ على النبي، وكثيرةٌ علينا ونحن في صدره.

والمفارقة أننا نزلنا ولم ننزل، صعدنا ولم ننقطع عن الصعود، بأيدينا أن نذهب متى شئنا، لكل منا إسراؤه ومعراجه، لكل منا طريق أفقي وطريق رأسي، ولن تصل إلى الرأسي إلا إذا قطعتَ الأفقيّ أولاً، لماذا لم يصعد النبي من مكة مباشرةً؟ لماذا إلى القدس ثم إلى السماء؟ لستُ مطلعاً على الغيب، لكن لتصل إلى السماء لا بد من درجةٍ تصل إليها في الأرض بدايةً، وبعد ذلك لن يكون من الصعب الوصول إلى الله.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد