من الفترة الواقعة بين 25 فبراير/شباط الماضي إلى 7 من مارس/آذار من هذا الشَّهر، قامتِ القوَّاتُ البحرية التركية، ومعها قواتٌ من أسلحةٍ أخرى كالقواتِ الجويَّةِ والبرِّيةِ والعمليات الخاصة، بمناوراتٍ بحرية ضخمة في نطاق بحر إيجة والبحر المتوسط.
شهدتْ هذه المناورات التي شاركت فيها نحو 90 قطعة بحرية مختلفة، ومئات الجنود، اهتماماً واستنفاراً واسعاً من قادة البلاد، وعلى رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الدفاع خلوصي أكار، فلماذا هذا الاهتمامُ الواسع؟ وما رسائل هذه النسخة من هذه المناورات؟ وما علاقتها بالوطن الأزرق؟
الوطن الأزرق
أطلقت تركيا مناوراتٍ شبيهة لأول مرة فبراير/شباط 2019 تحت اسم "الوطن الأزرق"، وكانت هي المناورات الأكبر في تاريخ البلاد. في ذلك التوقيت لم يكن معروفاً على وجه التحديد ما الذي يعنيه هذا المركب الإضافيّ: "Mavi Vatan".
بالبحثِ عن جذور هذا المصطلح، وُجد أنه أطلق لأول مرة عام 2006، بعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بعام واحد، على لسان الأدميرال جيم غوردنيز، مدير وحدة التخطيط المستقبلي في سلاح البحرية التركي حينئذ.
بمرور الوقتِ، أخذت تركيا تكشف خيوط هذا الوطن المنسوج باللون الأزرق وعلاقته بالقوَّةِ العسكرية، وطريقة إعلانه بالمناوراتِ الأوسع في تاريخ البلاد؛ حيث ظهر أردوغان في الشهر التالي، مارس/آذار 2019 في أحد المؤتمرات الصحفية، ومن خلفه خريطةٌ لهذا الوطن.
وفي يوليو/تموز من نفس العام، كشفت وحدة الاتصال بالرئاسة التركية رسمياً عن هذه الخريطة التي تُظهر طموحات تركيا المستقبلية في مجالات عدة متنوعة، مثل الطاقة والبحرية والجغرافيا السياسية والاقتصادية والتاريخ.
وبعد شهرين، في أكتوبر/تشرين الأول نهاية عام 2019، كتب حسابُ الجيش التركيِّ على تويتر عن هذه الاستراتيجية قائلاً: "بحارنا، أثناء قيامنا بواجباتنا نحن فخورون بأن نرفع راياتنا التركية المجيدة في جميع بحارنا، نقر بأننا على استعدادٍ لحماية كل مساحة من وطننا الأزرق".
بالنظر إلى الخرائط الرسمية المرفقة، سنجد أنّ مساحة الوطن التركي الأزرق تبلغ 462,000 كلم مربع، وهي مساحة أكبر من نصف مساحة البرِّ التركي البالغة 770,760 كلم مربع، وتوزع على 4 بحار، أكبرها مساحةً البحر المتوسط بـ189 ألف كلم مربع، فالبحر الأسود بـ172 ألف كلم مربع، ثم بحر إيجة بـ89 ألف كلم مربع، وصولا إلى بحر مرمرة بـ12 ألف كلم مربع.
مثلت تلك الخريطة انقلاباً على الأوضاع التاريخية التي أرستها معاهدة "لوزان"، والتي أبرمت على أنقاض الدولة العثمانية المهزومة في الحرب العالمية الأولى 1923، بحيث يعيد الوطن الأزرق إلى تركيا عمقها المائيَّ، الذي انتزعتهُ منها هذه المعاهدة، ومنحها إلى اليونان التي تمتلك جزراً تقترب من الحدود التركية بشكل غير مسبوق، في البحر المتوسط وبحر إيجة.
بعد إطلاق تلك الخريطة، التي تحوي استراتيجيةً وطموحاً وجدولاً زمنياً لتحقيق هذا الطموح يتقاطع مع مئوية الدولة التركية الجديدة عام 2023، توقع باحثون أن تتراجعَ تركيا عن هذه الاستراتيجية، تحت وقع الضغوط المالية، والضغوط السياسية، داخلياً وخارجياً، ولكنَّ الظاهر والحقيقي بعد عامين بالضبطِ من إطلاق الاستراتيجية أنَّ تركيا لم تتخل عنها، بل على العكس، تمضي بخطواتٍ عملية نحو تحقيقها، بالتزامن مع هذه المناوراتِ العسكرية، فكيف يحدث ذلك؟
اعترافٌ مُهمّ
من المعروف أنَّ أكبر أزمات تركيا البحرية، تاريخياً وفي الوقت الحالي، كانت مع اليونان وقبرص، ولم تكن مع مصر. وأنّ أكبر خصوم القاهرة الإقليميينَ في ملف النزاع على الثروات والحدود في شرق المتوسط هما قبرص واليونان، ثمّ إسرائيل، وليس تركيا.
من أجل العداءِ المتوهَّمِ بين القاهرة وأنقرة في شرق المتوسط، والذي كانتِ القاهرة فيه تحت حكم السيسي على أتمِّ الاستعداد لخسارة مواردها من أجل إلحاق الأذى بتركيا وقطع الطريق أمام مشروعاتها الطاقويةِ والتوسعية، وقعت مصر اتفاقاتٍ مهينة لترسيمِ الحدود مع اليونان، أو لنقل واستيراد موارد هي في كفاية منها مثلما حدث مع إسرائيل في ملف الغاز، وقبل ذلك مع قبرص.
هذا فيما كانت تركيا تطلب من القاهرة، تنحية الخلافات السياسية التي تدخل فيها الاعتبارات القيمية، والإعلامية، من أجل توسيع خطِّ الاتصال المفتوح مخابراتياً بين البلدين، ليشمل التنسيق الفنيَّ والدبلوماسيَّ في الصراع بشرق المتوسط، لمصلحةِ القاهرة التي ستزيدُ حدودها، ومن ثمّ ستزيدُ فرصها إحصائياً في تعظيم ثرواتها من الطاقة، ولمصلحة أنقرة التي لا تريد أن تكون المعادلة: الجميع ضد تركيا.
في هذا السِّياق، كانت أنقرة قد أهدت فرصةً تاريخيةً للقاهرة عندما وقعت اتفاقية ترسيم الحدود مع حكومة الوفاق في ليبيا العام الماضي، حيث قطعتِ الاتفاقية، نظرياً، الطريق أمام مشروع "إيست ميد" الذي يتبناهُ الثلاثيّ اليونان وقبرص وإسرائيل من أجل تصدير الغاز لأوروبا، وعظمتْ من حدود مصر البحرية وما يترتب عليها من مناطق اقتصادية خالصة حال اعترفت بها، ولكنّ النظام في مصر كان هدفه الاستراتيجي: إحراز الأهداف في تركيا، حتى لو كانت ستدخل مرماه أيضاً.
ما استجدّ مؤخراً بالتزامن مع المناورات البحرية الكبرى لتركيا، هو أن تركيا انتزعت اعترافاً ضمنياً بحدود الجرف القاري لها كما عرفته عند الأمم المتحدة، والذي ينبني عليه جزء من خريطة "الوطن الأزرق"، وذلك عندما منحت مصر إحدى المؤسسات حقوق التنقيب عن الثروات الطبيعية في الرقعة "W18" في المنطقة الاقتصادية الخالصة لها مع اليونان، دون التنسيق مع الأخيرة، وبشكل يقرّ بحدود الجرف القاري التركي.
كما كان متوقعاً، تلقفتْ أنقرة التي تريد تفكيك معادلة "الجميع ضد تركيا" في شرق المتوسط، والتي اجتذبت من أجل تفكيكها ليبيا سابقاً، خطوةَ القاهرة بالقبول والترحاب، إذ تريد أن تقصرَ صراعها في هذه المنطقة مع اليونان وقبرص اليونانية فقط، مما أدى إلى إشعال الغضب في الأوساطِ الحكومية والصحفية بأثينا، وهرولةِ نيكولا دندياس وزير خارجية اليونان للقاهرة لبحث هذا "الغدر"، كما أسمته صحافة بلاده.
خطوة القاهرة ليست نهائية، بمعنى أنه يمكن التراجع عنها، وقد لا تتطور أكثر من ذلك، وتدخل على الأرجح ضمن الصراعِ المكتوم بين القاهرة وأبوظبي على الاستقلال والنفوذ في الإقليم، حيث تريد القاهرة إيفاد الإمارة النفطية بأنّ كل الأوراق ليست في يدها، وأنّ التقارب مع خصومها في تركيا محتمل إذا لم تتوقف عن تهديد المصالح المصرية، ولكن هذه الخطوة في النهاية أسمعت "عملياً" في أنقرة بشكل يستهدف خططها الطاقوية والبحرية مستقبلاً.
ردعُ اليونان
تعدُّ اليونان أمةً عريقة تاريخياً، ومن أمم القتال كما يُستخدم في الكتب القديمة. وتمتلك جيشاً قوياً، عضو في حلف شمال الأطلسي، وتحظى بدعم عسكريٍّ من أوروبا، وبالأخصِّ فرنسا، ومن الولايات المتحدة.
خلافاً للقلق من إمكان التحول في السياسة المصرية بما قد يُخلّ بموازين القوى العسكرية في هذه المنطقة، فإنّه كان متوقعاً أن تقومَ القوات البحرية اليونانية بـ"التحرش" بنظيرتها التركية في البحر المتوسط وبحر إيجة لعدة أسباب.
السببُ الأول، أنه كان هناك معلوماتٌ بأنّ تركيا سوف تُعيد إرسالَ سفن البحث والتنقيب عن الثروات الطبيعية في المياه المتنازع عليها خلال الفترة القادمة، بعد أن توقفت تلك السفن عن العمل لفترة كبيرة شهدت مفاوضات بين أنقرة وأثينا بوساطة الناتو.
وفي الأصل، تتحفظ أثينا على أيِّ أنشطة بحرية لتركيا حتى لو كانت بحثية محضة، كما حدث مع السفينة "ششما" فبراير/شباط العام الماضي، التي تحرشت بها السفن والطائرات اليونانية بالرغم من أن أنشطة السفينة تتعلق بالرصد الجيولوجي، وهو ما أثار التوتر بين البلدين كالعادة حينها.
السبب الثاني أنّ هناك دعماً عسكرياً ملحوظاً من الولايات المتحدة إلى اليونان خلال الفترة الأخيرة، تبلور في إرسال أكثر من 100 مروحية متنوعة من طرازات "بلاك هاوك" "وأباتشي"، بالإضافة إلى عشرات العربات القتالية وسفينة بحرية عملاقة، وتحديث الاتفاقية العسكرية الثنائية بين البلدين، وإقامة قاعدة عسكرية أمريكية جديدة في جزيرة "ألكسندربوليس"، إلى جانب القاعدة الموجودة في ساحل سودا بكريت.
بكلِّ تأكيد، لهذا العتادِ أغراضٌ كثيرةٌ تتعلق بخارطة النفوذ الأمريكي الأوسع في المناطق البحرية المهمة من العالم ضمن صراعها مع القوى العالمية المنافسة، ولكنّ بعضاً منه بالفعل موجهٌ لدعمِ اليونان ضدّ تركيا، خاصةً بعد أن تعقدت الأمور بين الولايات المتحدة وتركيا على خلفية رفض الأولى عروض التفاهم على مصير صفقة "إس 400" والإصرار على إبعاد أنقرة عن برنامج "إف 35" وعدم حدوث أي اتصالاتٍ بين الرئيسين الأمريكي والتركي حتى الآن، حتى إنّ هذا الدعم العسكري تزامن مع الذكرى الـ200 للتمرد اليوناني على العثمانيين.
لذلك، فكان من ضمن الأهداف الضمنية لنسخة هذا العام من هذه المناورات التي عملت على: "زيادة الاستعداد القتاليِّ بين القياداتِ في العمليات المشتركة، واختبار قدرات الدعم المتبادل، وتوجيه ضربات بحرية وجوية عالية الدقة لوحدات غير مأهولة" أن تظهر الأنيابَ التركية أمام الاستقواء اليونانيّ بالحلفاء، أو كما قال الرئيس التركيّ إنّ مناورات هذا العام هي الأكثر شمولاً وتنظيماً لردع المتربصين في أماكن كثيرة من بينها البحر المتوسط وبحر إيجة.
سياقات أخرى
بالاستعارةِ من ريان جيجراس، الأستاذ بقسم شؤون الأمن القومي في البحرية الأمريكية، فإن استراتيجية الوطن الأزرق، التي حملت المناورات اسمها، والتي تريدُ تركيا استخدام القوة من أجل تحقيقها، حيث ترى أنّ هذه القوة نوعٌ من القوة العادلة التي تصحح الأوضاع التاريخية غير العادلة، بينما يرى خصومها المتضررون من الطموحات التركية أنها قوة من أجل الهيمنة.
هذه الاستراتيجية، كما يقول الأكاديميّ العسكريّ، لم تكن لتصبح جزءاً من "أجندة" الدولة التركية، إلا بفضل نوع من الهيمنة الداخلية التي يمارسها قادة الدولة فعلياً، والخطاب ذي الأبعاد القومية (العثمانية).
وفقاً لهذه الرؤية، التي تنطلق من من التطبيق إلى النظرية وليس العكس، والمناخ السياسيّ في تركيا بطبيعته الشرقية وسماتهِ الحزبية ومكونهِ الدينيّ يميل بالفعل إلى توليد نماذج الهيمنة الفردية والتي ترتبط في كثير من الأحوال بالنزعة القومية، يمكن فهمُ اعتراضِ عدد من الأحزاب التركية على دعوة الرئيس التركيِّ الأخيرة قبل شهر إلى صياغة دستور جديد يؤسس إلى مزيد من الحريات العامة بدلاً من الدساتير التي صيغت في سياقات انقلابية.
ما نجادلُ فيه أنّ استراتيجية "الوطن الأزرق"، بما تمثله من طموحات للهيمنة الخارجية، أو الاستقلال كما تسميه الأوساط الرسمية التركية، لم تكن لتخرج، وهو ما حدث بالفعل، إلا من التركيبة التي ينتمي إليها الرئيس التركي الحالي رجب أردوغان: التفرد الشخصيّ، والسيطرة الداخلية، والنزعة القومية، وهو ما تعرف المعارضةُ أنّ الرئيس يسعى إلى تكريسهِ بشكل عام، حيث يُرتجى أن يتقاطع تحقيق جزء كبير من الاستراتيجية بالتزامن مع الانتخابات العامة ومئويةِ الدولة التركية معاً.
من زاوية أخرى في نفس السِّياق، فقد شدّدَ الرئيسُ التركيّ في كلمته للقوات المشاركة في المناورات، للمفارقة، على ضرورة التوسعِ في التصنيع البحريّ، بشكل يسير جنباً إلى جنب مع التقدم الحاصل في مجال تصنيع الطائرات المسيرة، مستعيراً التجربة العثمانية الناجحة للتدليل على أهمية هذا المضمون، والتي جعلت من البحر المتوسط بحيرةً عثمانية، وجعلت العثمانيين على قمة الهرم السياسيّ في العالم، ورايةً للعدالة في الشرق المتوسط وإفريقيا، على حد قوله.
ومن المعروف، إلى جانب أهمية استراتيجية الوطن الأزرق من أجل خدمة أهداف تركيا في مجال الطاقة كما حدث في الاستكشاف الغازي الأخير بالبحر الأسود، أنّ الاستراتيجية تهدفُ في الأساس إلى توفير "العمق البحري" اللازم للدولة التركية لأنّ الحدود البرية الوعرة لتركيا تمثل مانعاً طبيعياً تاريخياً صعباً أمام تهديدها، كما تنصّ أبجدياتُ عقيدتها العسكرية، ولكنّ البحر الفسيح أضعف نقطة في خاصرة الدولة، لذلك كانت الوطن الأزرق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.